ثمة أدوية نادرة .. وآخرى باهظة الثمن، ثمة أدوية تؤذي وأدوية عديمة النفع ونوع ثالث عديم الضرر يبدو إلى المياه الملونة أقرب منه إلى دواء .. لكننى اليوم أحكى لكم قصة دواء آخرى .. دواء يتم إعداده على نار الفحم ..!!
---
-1-
كنا جالسين في قاعة المحاضرات (التيوتور) نصغي باهتمام لما يقول البروفسور (مورجان) مستشار منظمة الصحة العالمية، خاصة حين أشار إلى مساعده كي يبدأ تشغيل جهاز عرض الشرائح على الحائط "إن القانون الوحيد الذي يحكم عملية إدارة الدواء هو الكسب .. والقيمة الوحيدة للأمور هي مقدار ما تجنيه من أموال .. من العسير عليّ أن أقول هذا، وأنا طبيب يعرف قيمة الدواء للمرضى، لكن يظل للقيم الإنسانية صوت عال يجب أن يملك حرية الكلام والتعبير، وإلا أختلت موازين الأمور وتحطمت القيم".
أظلمت القاعة، ثم بدأ عرض الصور تباعا، كانت الصورة الأولى بشعه، تمثل كهلا نحيفا يرقد في مكان أقل ما يوصف به هو القذارة، وقد رقد على شيء أخضر لم نتبين كنهه مع رداءة الصورة وضعف الإضاءة التي التقطت فيها، لكنني لسبب لا أعلمه أحسست أنه بقدونس!.
قال (مورجان) "ما ترونه أمامكم هو واحد من ضحايا انعدام دراسات الإتاحة الدوائية في العالم الثالث، الفقراء يلهثون وراء الدواء الذي يتم الترويج له بكثافة، لكن لا أحد يعرف إن كانت له أهمية أم لا، إن كانت أعراضه الجانبية آمنة أم لا، إن كان تأثيره ذا جدوى من الأصل أم لا، فقط لأنهم يدفعون أكثر ويعانون بلا ضوضاء، ويموتون دون أن يهتم بهم أحد".
ثم توقف وقد أحتقن وجهه وأحمرت عيناه أنفعالا، ليكمل وقد بدأ يرغي ويزبد وأرتفعت نبرات صوته وهو ينظر باتجاهي تحديدا دون غيري من الحضور "في ستينات القرن الماضي روج لعقار (الثاليدومايد) على أنه مهديء خاص بالحوامل بلا خطر، ثم كانت الكارثة في أوروبا وأمريكا مع مولد جيل كامل من الأطفال بلا أذرع ولا أقدام، واليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين تتكرر المأساة في بقعة آخرى من العالم ويتساقط الضحايا واحدا تلو الآخر دون أي اعتبارات لمهنية علمية أو قيم إنسانية".
كان قد بلغ ذروة انفعاله وغضبه وهو يقترب رويدا من مكان جلوسي، فلم يعد يفصلنا فعليا إلا بضع خطوات فوجئت به يقفزها كالمعتوه في مرة واحدة قابضا على رقبتي وهو يضغط حروف كلماته بمنتهى الغل "فهل يمكن لطبيبنا الشاب د. عبد العظيم أن يقدم لنا مزيد من التوضيح عن العلاج المبهر الذي أُعلن عنه في بلاده بوصفه شافيا من كل الأمراض التي عرفها البشر منذ بدء الخليقة.. هل لديك معلومات عن جهاز الكفته يا د. عبد العظيم؟".
-2-
بجدية .. دنا مني (شيلبي) وقد جمعنا (بارتلييه) في حجرة مكتبه مع ذلك المعتوه (مورجان)، طالبا مني تحري الدقة والصدق فيما سأتفوه به في هذه الجلسة المغلقة، مشيرا إلى أن استمراري في الوحدة على المحك في مقابل ما سأنطق به خلال اللحظات القليلة القادمة "اعتقد أنك في ورطة كبيرة يا فتى!".
قال (بارتلييه) وقد احتل المسافة الفاصلة بيني وبين (مورجان) بجسده الضخم لمنع أي اشتباك جديد محتمل "أرجو أن نجد لديك إجابات مقنعه عن أسئلة السيد (مورجان) يا د. عبد العظيم، فالأمر خطير للغاية، ويضرب سمعة الوحدة في مقتل".
تطلعت إليه في عدم فهم، فأكمل وهو يشير إلى (مورجان) بطرف عينه "ما هي معلوماتك عن أسلوب العلاج الذي أعلنت عنه مصر لدرزينة من الأمراض والأوبئة، دون سابق أبحاث أو أختبارات معملية، ومع كم اللغط المثار عالميا حول هذا الأكتشاف الغريب؟".
فغرت فمي في دهشة وعدم استيعاب، ثم أطرقت برأسي أرضا في محاولة للعثور على إجابة شافية سيتحدد على إثرها مستقبلي المهني وحياتي كلها فلم أجد، ماذا عليّ أن أخبرهم وأنا الذي لا يعرف عن بلده وأخبارها إلا الفتات من مكالمات تليفونية موسمية مع الأهل والأقارب وبعض الأصدقاء، فكيف بي أتحدث عن بحث علمي وأكتشاف طبي سيغير وجه التاريخ في المنطقة بإسرها!!.
لاحظ (مورجان) شرودي وحبات العرق التي بدأت تحتشد على جانبي وجهي فأزاح (بارتلييه) من الطريق ووضع يده على كتفي إيذانا بخطبة عصماء أثق أن نهايتها لن تحمل لي إلا الخراب والسوء "أسمع يا بني .. أنت طبيب نابه كما سمعت هنا من زملائك وأستاذتك، فلابد وأنك تعرف تمام المعرفة أن هناك خطوات معقدة تتم للتأكد من جودة أي دواء قبل طرحه في الأسواق، حتى ولو كان دواء لمرض بسيط كالأنفلونزا".
هززت رأسي أن نعم، فتابع وهو ينفث زفيره الساخن على وجهي "هذه الخطوات/الدراسة/الأبحاث، تبدأ بحيوانات التجارب فإن وجدت النجاح المتوقع يبدأ تنفيذها على البشر وفق عمليات ديناميكية معقدة يتم فيها تقسيم المرضى إلى مجموعتين واحدة تتعاطي دواء وهميا نسميه إصطلاحا "بلاسيبو Placebo" وتعني باللاتينيه (سوف أسعد)، والثانية هي التي تتعاطى الدواء الحقيقي".
حاولت أن أُظهر شيء من الثقة وأنا أقاطعه "أعرف طبعا، وأعرف أيضا أن المجموعه الأولى التي تتعاطى "البلاسيبو" يتم تقسيمهم إلى مجموعتين فرعيتين واحدة يعلم فيها الطبيب وهمية الدواء، والثانية يجهل فيها الطبيب والمريض طبيعته ومدى فاعليته".
تبادل مع (شيلبي) و(بارتلييه) ابتسامه لم أفهم مغزاها، وهو يعاود الأقتراب متعمدا (التفتفه) على وجهي مع نهاية كل كلمة ينطقها "في العام 1890 أكتشف الألماني فون بهرنج ترياق لعلاج وباء الدفتريا الذي تسبب في مصرع الملايين، ولشدة حماسته ورغبته في إنقاذ الإنسانية من مرض وبيل، شرع في اختبار الدواء على البشر دون المرور بالخطوات المعقدة سالفة الذكر، صحيح أنه نجح، لكن ما فعله علميا كان خطأ كبير لدرجة أن عالم بحجم روبرت كوخ (سيد علماء الميكروبات في العالم) لم يرق له ما قام به تلميذه النجيب ووبخه، مطالبا إياه بمراعة الدقة والمنهجية العلمية السليمة".
ثم أعتدل وقد أنتفخت أوداجه بشدة "فهل تعتقد أن كوخ العظيم كان ليصمت على ما تقومون به في حق العلم والإنسان في مصر ونحن في القرن الحادي والعشرين".
-3-
قالت (برنادت) وهي تنقل بصرها بيني وبين صورة الكهل التي عُرضت في المؤتمر وقد احمرت عيناها وسال أنفها، "هذا شنيع يا علاء.. شنيع"
هززت رأسي موافقا، وقد تسرب الأشمئزاز إلى معدتي وأنا أتخيل المرضى المستبشرين بالعلاج الشافي وقد تم إرقادهم على أسرة مغطاة بالبقدونس والجرجير وأعواد الكرفس، بينما ينتظرون دورهم للخضوع لجلسات علاج على الفحم المشتعل كمرحلة أولية قبل أستخلاص المرض في هيئة "أصابع من الكفتة" يعاد تقديمها لكل منهم ليتغذى عليها!.
"أعتقد أنني سأتقيا يا علاء!!"
طوال أسبوع كامل وأنا أبحث عن أرتباط علمي بين ما أعرفه وما تم الإعلان عنه بشأن علاج فيرس الكبد الوبائي والإيدز والملاريا وغيرها من الأمراض المستعصية دون جدوى.
حاولت مرارا القيام بمداخلات هاتفية مع برامج التوك شو التي تروج للعلاج الجديد عبر الفضائيات المصرية التي يصل إرسالها إلى الكاميرون، فلم أجني إلا الشتائم واتهامات بالعمالة والرغبة في تدمير العقول المصرية المميزة التي لم تخضع لإغراء المال وشهوة الهجرة خارج حدود الوطن!.
صحيح أن أموري أستقرت بعض الشيء بعد إصرار (مورجان) على أنني متورط في هذه الخزعبلات ولو بجنسيتي المصرية، لكنني أبدا لم أشعر بالراحة .. ولأول مرة وودت أن تكون إحدى المشكلات التي أواجهها ضمن نطاق عملنا هنا في وحدة سافاري.
-----------
* بعض أحداث هذه القصة/المقالة/التدوينة مقتبسة نصا "مع تعديلات طفيفة" من رائعة د. أحمد خالد توفيق (دواء يقتل) العدد رقم 17 من سلسلة سافاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق