ولكن لماذا لا أحكي عنهم؟
لماذا يفترض البعض أن علىّ أن التزم الصمت دائمًا وأبدًا؟
لقد قضيت حياتي كلها أصمت وأستمع إليهم، والآن .. يبدو أن الوقت قد حان كي أتكلم فلا أفعل إلا الكلام .. إذا لم يتكلم المرء وقد أوشكت مرارته على الإنفجار، فمتى يتكلم إذن؟
أحيانا أشعر بالخوف من وجودهم المتكرر حولي .. أشعل التلفاز فيقفز أحدهم في وجهي بتحليلاته وأخباره التي لا أدري من أين آتي بها .. أشعر بالقرف فأغلق الصندوق السخيف، واتجه إلى المذياع الذي أعشقه، فإذا بصوت آخر من نفس الفصيلة يرغي ويزبد ويكرر ذات التحليلات الجهنمية التي لابد وأن ابراكسس نفسه اطلعه عليها .. فأموت كمدا واسحب قابص الكهرباء .. ثم اتجه إلى شرفتي مع جريدة اليوم فقط لتصطدم عيناي بثالث يكرر نفس الخزعبلات، فتتوتر معدتي وأوشك على التقيؤ على غسيل جاري الذي يبدو أن زوجته تتعامل معه كما تتعامل أي ربة منزل مع البصل والثوم اللذان يتم تعليقهما في الشرفات لإبعاد الشياطين والعفاريت، وإلا ما تركته للأسبوع الثالث على التوالي يجمع الأتربة والغبار ويتحول تدريجيا إلى لون واحد أقرب إلى زفت الأسفلت المعروف!.
أنا العجوز الوحيد الواهن، طبيب أمراض الدم الذي رأي الأهوال، والذي يحلم بأن يعود طفلا يرتجف من الظلام ويتمنى لو أضاء أحد أبويه ضوء غرفة النوم بعد أن داهمته الكوابيس والرؤى الشريرة .. قررت أن الوقت قد حان لأتكلم عنهم .. ولأحكي أسطورتهم التي ما كان لها أن تصبح أسطورة لولا أننا تعودنا الصمت والأستماع دون أن نعترض أو نبالي بما يٌلقى على مسامعنا.
اليوم أحكي لكم عن أسطورة ولود الوزة!
*************
بالصلاة ع النبي كلكوا بلالين
والنفخ بيستُر بلاويكم
*************
1- بائع البطيخ
هل مات العراف الفرنسي الأشهر في التاريخ "نوسترادموس"، ربما توافقني الرأي أو تعتبرني مجنونًا لو أخبرتك أنني أراه أمامي يوميا أو أسمع أحدى نبؤاته التي أثارت الرعب والفزع في عصر ما قبل الحرب العالمية الثانية .. ومازالت حتى يومنا هذا، سواء كانت نبوءات حقيقة كتبها الرجل، أو تم إلصاقها به لغرض ما، كما حدث من غوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر عندما استخدم مُنجم يُدعى كرافت لعكس بعض النبؤات التي توقع فيها نوسترادموس هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية وانتحار هتلر!.
العراف الذي جابت شهرته الآفاق حيًا وميتًا، عاد من قبره وصار ضيفا دائمًا "بالغصب والاقتدار" علىّ وعلى الملايين غيري، يحتل بكيانه الهلامي شديد اللزوجة مساحات زمنية غير قليلة من أوقات البث للصندوق السحري بابتسامته اللزجة وجحوظ عينية ووضعية المثلث التي يستخدمها لإسناذ ذقنه على يديه متصنعا الخطورة والأهمية.
يُلقي علينا إنفراداته عن الجرجير والولائم وأصناف الطعام التي تتنوع بين الجمبري والأستاكوزا والتي تكفي شياطين جانب النجوم بمحبيهم وخدامهم، بينما يُصر هو على أن بني آدم واحد مثلي ومثلك هو من التهمها وحده، ثم يتنحنح ويغمض عينيه ليؤكد أن فلان قال له، وعلان لابد أنه فاعل كذا غدا أو بعد غدا على أقصى تقدير.
ببشرته السمراء وشعره الأبيض الذي يكاد يزحف مبتعدا إلى مؤخرة رأسه كاشفا عن صلعة ناعمة تُضيء في الظلام، لا يكف عن التنقل بين الصفوف، فيعجز أبرع الخبراء والمحللين عن أكتشاف انتمائه الحقيقي، ومصادره السرية التي ينقل عنها هذا السيل من المعلومات والحقائق والتصريحات.
اسمع صوته الرخيم قادما من اللامكان، فاغادر مطبخي تاركا المعكرونة تنتظر طشة الصلصلة .. باحثا عن مصدر الصوت، فإذا به أمامي معلقا في الهواء جالسا على اللاشيء، ينظر إلى الفراغ القادم من غرفة النوم
- أنت مين أذنلك تدخل الشقة يابني آدم أنت، وبتبص على إيه في أوضة نومي
يفتح عينيه، ثم يشبك أصابعه بذات الوضعية سالفة الذكر .. يتنهد فيلفح الهواء الساخن جانبي وجهي مع رائحة مقززة لجثة حيوان سلبندر وافته المنية منذ ثلاث سنوات، ثم يبدأ الحديث المشوق:
- يا دكتور، أنا جاي أحذرك وأخيرك في نفس ذات الوقت، أنت واقف في الجانب الغلط ونهايتك مش هتبقى بالشياكة اللي أنت متخيلها.. لوسيفر قالي بعضمه لسانه في قعدة أنس أن آخرتك مهببة!
- لوسيفر قالك أنت!
- بلاش تستهزأ بكلامي يا دكتور .. حاول تغير من أفكارك المبنية على معلومات غلط، لوسيفر قالي أن الثورة كانت مؤامرة لتدمير البلد، فبلاش تختار الجمب الغلط وتقعد فيه، لأنك لو معدلتش موقفك، هنعدلهولك "بالعافية"!
هنا شعرت بعمود من النار يخترق قفاي، فهرولت إلى المطبخ وفكرة واحدة تسيطر على تفكيري "ده قال لوسيفر مرتين .. مرتين ابن الوزة"، ثم دوت الصرخة في الصالة والنيران التي أشعلتها بعد بخه بالكيروسين تذبُل رويدًا رويدًا، لتمتزج رائحة شياط المعكرونة التي نسيتها على الموقد مع رائحة شواء مقززة سرعان ما اختفت.
- لوسيفر لاء يابن الوزة .. فاهمني .. لوسيفر خط أحمر!
*************
النفخ بيستُر بلاويكم
*************
2- الأستاذ
بالأمس قابلته، بشحمه ولحمه .. الرجل التسعيني الذي لم يكف عن إبهار العامة أمثالي ليوم واحد في حياته منذ أستخدمه (عبد الناصر) لإيصال رسائله السياسية إلى خصومه ومحبيه على السواء .. بشكل غير مباشر من خلال المقالات التي كان يكتبها بحماسته المعهودة وأسلوبه الغامض الذي يُشعرك أنه يعرف الخبايا ويملك مفاتيح الخزائن المغلقة!.
مازال حيًا جدًا، يعشق الثرثرة كأنما ولد ليحكي .. وكأنما ولد منذ ملايين السنين، أصطدمت به عن غير قصد وأنا أدلف إلى النادي بينما كان يمارس رياضة ما .. مرتديا زيًا رياضيًا باهظ الثمن، فابتسم وحياني في مودة، برغم أننا لم يسبق أن تبادلنا أطراف الحديث من قبل.
- دكتور رفعت إسماعيل .. كنت لسه في سيرتك الصبح مع ناس حبايبي
رفعت حاجبي في عدم فهم، بينما يضع يده على كتف ليجبرني على السير إلى جواره في ممشى النادي
- كنت محتاج أدردش معاك شوية في موضوع مهم
وقبل أن افتح فمي لأعترض أو أقبل، وضع في يدي بطاقة لامعه، طالبا مني المرور عليه في عنوان مكتبه المطبوع عليها في اقرب وقت ممكن، ثم تركني وانصرف!
ولما كنت كالقطط .. يوشك الفضول أن يحملني إلى القبر، لم أنتظر لنهاية اليوم، وهرعت من فوري إلى العنوان المدون، فاستقبلني رجل ضخم الجثة حسن الهيئة دعاني للجلوس حتى يُعلم الأستاذ بقدومي.
دقائق وكنت أجلس أمامه في حجرة مكتبه التي زُينت حوائطها بمئات المئات من الكتب مختلفة اللغات والأهتمامات، وبينما أطالع بعض العناوين القريبة منبهرًا، تنحنح وهو يسئلني عما أشربه بينما يقف ذلك (الديناصور) الذي أستقبلني منذ لحظات منتظرا.
- ياريت قهوة مضبوطة .. وشوية ميه
غادر (التنين المجنح) الذي أدركت أنه حارسه الخاص ومدير مكتبه في نفس ذات الوقت لإحضار القهوة، فيما التفت الأستاذ وبدأ الحديث
- زي ما قلتلك الصبح يا دكتور، أحنا محتاجينك معانا في الفريق
- بس أنا بطلت لعب كورة من زمان!
أبتسم في لزوجة للدعابة السمجة، ثم اقترب معترضًا بوجهه ضوء المصباح القريب، ودون أي محاولة للجدال أو المراوغة
- أنا أقصد الفريق الرئاسي يا دكتور .. قامة علمية زيك هتبقى إضافة قوية في صراع الأنتخابات
القى كلمته ثم تراجع في مقعده بينما تضع (جودزيلا) فنجاني القهوة وكوبي الماء على المكتب ثم تغادر في هدوء، بينما تصنعت التفكير بعمق وأنا أحملق في الفراغ.
في حقيقة الأمر، كان القرار صعب .. خاصة في ظل معطيات غير مبشرة كالكفتة والهاشتاج، ثم أنني في الأصل أعتبر الكيان الجالس أمامي المختف خلف عشرات العناوين الرنانة من مؤلفات ومقالات وتصريحات وحوارات تلفزيونية واحد من أكبر ولود الوزة الذين سيعرفهم التاريخ ويكتب عنهم .. وعما اقترفتهم ايديهم من جرائم الغش والخداع والتدليس والعبث بالعقول.
الرجل مازال مصرا على لعب دور المرشد الوقور الذي يقود السفينة من بعيد، ويؤسس لدولة العدل التي أختفت في ظروف غامضة منذ ما يزيد على الستين عامًا، ويريد أن يصحبني معه أيضا .. ربما لنعلن للعالم بعد شهرين أو ثلاثة عن جهاز معجزة يمكنه علاج اللوكيميا عن طريق خلط دماء المريض بعصير الجزر المركب مع نسب دقيقة من الشبت والكسبرة!
- شكلك محتاج وقت تفكر يا دكتور
هززت رأسي بينما يوليني ظهره باحثا عن شيء ما بين ارفف الكتب، فيما شرعت من فوري في تنفيذ القرار الذي توصلت إليه، فاخرجت علبة اقراص النيتروجلسرين والقيت ثلاثة أقراص في فنجان القهوة الموضوع أمامه، ثم نهضت سائرا بجواره
- بس أكيد ساعدتك عارف أني مليش في السياسة وشغل الصناديق ده، ثم أن الموضوع محسوم من وجهة نظري ومفيش داعي لوجودي فعلا
أرتسمت ابتسامة ضخمة على شفتيه وهو يعود ليجلس على مقعده، ثم يحمل فنجان القهوة ويبدأ في الأرتشاف منه
- بالعكس يا دكتور .. وجودك مهم ولو من باب التواجد وبس، أنت راجل ليك جمهور كبـــ
تلعثمت الكلمات على لسانه، وبدأ يعتصر كتفه الأيسر بيمناه، بينما تحتشد حبات العرق على جبينه.
الآن وقد سقطت رأسه على سطح المكتب، أفكر في الكيفية التي سأغادر بها حيًا دون أن تعتصرني قبضة (مازنجر) الجالس في الخارج!.
*************
ولذلك مش هاديكوا وجود
ولا هاكتب للناس أساميكم
*************
3- بخاتي!
فيما أقود سيارتي على الطريق الزراعي باتجاه قرية كفر بدر، حيث نويت أن اقضي بعض الوقت بعيدا عن صخب المدينة والتحقيقات التي لم تتوقف منذ مصرع الأستاذ والأختفاء الغامض لرجل التوقعات المرئية الأول في البلد، قفزت إلى ذهني عشرات المشاهد المختلطة عن (بخاتي) النتن الذي تحول بين ليلة وضحاها من مزارع فقير إلى أكبر رجل أعمال في المحافظة، إثر تعاونه غير الشرعي مع عدد من اللصوص وتجار الممنوعات!.
لم أفهم الرابط بين (بخاتي) وذلك الأحمق صاحب قناة (الفلاحين) الذي يُصر على أنه أعلم أهل الأرض بخبايا السياسة وأمور الدولة المصرية المتشابكة، وحين وصلت منزل شقيقتي هالني أن أجد الدوار بأكمله مجتمعًا أمام برنامجه التافه يستمعون ويؤمنون على كلماته الحمقاء والفاظه السوقية التي لاعلاقة لها بمهنة الإعلامي في أي زمان ومكان.
الرجل يتحدث عن عدد أعواد الجرجير بإريحية كاملة، ويخلط التحليلات السياسية بمخلفات المواشي، دون أن يعترضه أحد، بل وتزداد شعبيته يوما بعد يوم، في ظاهرة فضائية لم يسبق لها مثيل.
رحت أتامل الوجوه الشاخصة المبحلقة في سحنته، بينما أضمر شرا في أعماقي، عازما على ضمه في أقرب وقت ممكن لقائمة ضحاياي، التي يبدو أنها ستتسع دون إرادتي!.
قضيت نحو أسبوع في بلدتي، وبينما أقود السيارة على طريق العودة، وجدت زحامًا شديدًا على الطريق لا تصنعه إلا حادثة مروعة .. أوقفت السيارة واتجهت سيرا إلى حيث زغابة من البشر تُحيط بكيان بشري مغطي بالأوحال والأوساخ وإلى جواره جاموسة هائلة الحجم ترقد في وداعة إلى جانب الطريق.
- أومال عامل بيفهم في البهايم، وكل يوم يقولنا أمي جابت وأنا أشتريت، أهي الجاموسة نطحته
- شكله أول مرة يقابل جاموسة أساسًا .. ده كان ناقص هبابة والجاموسة ترقد عليه
واقع الأمر أن الحقيقة أغرب من الخيال، هاهو خصمي وضحيتي المنتظرة يرقد فاقدا لوعيه، بعد أن حاول (التفلحص) على ما يبدو وإزاحة تلك الجاموسة من عرض الطريق، فلقنته درسا عظيمًا ثم جلست جواره، ربما بإنتظار أن يفيق لتواصل معركتها مع مُدعي العلم والمفهومية.
- وسع منك له أنا دكتور
ابتعد الجمع فور هتافي مفسحين لي الطريق، فانحنيت إلى جواره متصنعا فحص نبضه، ثم رفعت وجهي وعلامات الآسي تكسوه
- مسكين .. مش هنقدر نساعده، اقرب مستشفى من هنا على مسافة سفر
تعالت همهمات القوم المتأسية الحزينة، بينما يحمله بعضهم بأمر مني إلى السيارة بحجة انقاذه والهرولة به إلى أقرب مستشفى، وفي نيتي إلقاؤه في أقرب ترعة تصادفني لإزالة تلك الأوساخ والأوحال من عليه لا إيذاؤه!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق