ربما من الغريب، ومع كل التطور العلمي الذي وصل إليه الإنسان، عبر تاريخ البشرية الحافل.. إستمرار إيمانه بإشياء وأحداث لا تستند إلى إي مقومات أو أسانيد علمية مقبولة.. كحرصه مثلاً على عدم المخاطرة برؤية قط أسود صباحاً، أو ربطه بين أي حدث غامض غير مفهوم بالقوى الخارقة والعفاريت والأشباح...!!
الإنسان ومهما تطورت علومه، في قلبه وعقله نقاط بالغة الإعتام، لن تُضيئها ألاف العلوم والمعارف.. أبدًا.
<><><><><><>
أنطلقت أشجار الطريق الزراعي، بكل ما أوتيت من قوة، تركض كالوحوش على جانبي العربة التي تُقلني مع والَداي إلى منزل جدي الريفي بمدينة الفيوم.
والفيوم، لمن لا يعرف، هي واحدة من محافظات مصرنا الغالية، بعض العامة يُطلق عليها (أول خط الصعيد).. بإعتبار أن محافظات الوجه القبلي تبدأ بها فعلياً، والمحافظة يقع في نطاقها واحد من أجمل المناطق السياحية على وجه الأرض، "وادي الريان" وهو بحق بشلالاته من أجمل المشاهد التي يمكن أن تقع عليها عيناك، بالإضافة إلى وجود "بحيرة قارون" بما تمثله من أسرار وغموض وجمالاً يخلب الألباب.
اليوم هو الخميس، رابع أيام إجازة نصف العام، أخيراً وافق أبي على تلبية الدعوة التي وصلته من جدي لوالدتي بقضاء بعض الوقت في منزل جدي الريفي، سبعة أيام كاملة سأقضيها وسط المزارع والحقول الخضراء، سألعب والهو واشاهد البلهارسيا وجها لوجه لأول مرة في حياتي، بعد أن سئمت من مطالعتها في كُتب الأحياء والعلوم.
• مامي..
• نعم يا (سمسم)..؟
• لسه فاضل كتير ونوصل لبيت جدو
• هاهاهاه، مستعجل أوي، ما أنت لسه مكلمه أمبارح في التليفون
• لاء، أنا مستعجل على اللعب، هو يعني جدو هيطير..!!
طوال الطريق وأنا أفكر في كم اللعب والمغامرات الجديدة التي سأخوضها هناك، في أرض جديدة تطُــأها قدمي للمرة الأولى، صحيح أنني وللمرة الأولى من مدة ليست بالقصيرة أبتعد عن أصدقائي وأفراد فريقي (بسبس)، (طاحونة)، (العشوائي).. صحيح أنني لن أواجه البعبيع لسبعة أيام كاملة.. ولكن حُمى التجديد والبحث عن المختلف لا تُقاوم.
• حضر نفسك يا سيدي، كلها ربع ساعة ونوصل
• بصحيح يا مامي
• أسمع يا (سمسم)
• نعم يا بابا
• عايزك تبقى ولد مؤدب، متعملش مشاكل، ومتضايقش جدك ذي عوايدك، أنت عارف أني مش هقدر أقعد معاكم أكثر من يومين عشان شغلي، هاه هتبقى راجل..؟؟
• عوكيه يا بابا، راجل ومش هعمل مشاكل، كُن مطمئنًا.
كان الأستقبال حافلاً، فطير مشلتت.. عسل نحل.. جبنة قديمة، وخلافه من الأصناف الريفية التي يسيل لها اللعاب، ورغم أن الوقت بعد تناول الطعام لم يكن قد تجاوز الرابعة عصرًا، إلا أنني شعرت بالتعب والإرهاق الشديد، ربما من رحلة السيارة، أو من دسامة الطعام، أو ربما من الأثنين معًا.. المهم أنني قد تعلقت بأصابع جدي أكاد لا أرى ما أمامي هامسًا أني أرغب في النوم حالاً، ثم أنطفئت الأنوار أمامي.
(بسبس) مُستندًا إلى حافة الفراش: يا عيل، كده تلهط الفطير لوحدك.. أخص عليك، يا معفن
(العشوائي) صارخــًا في أذني مُحيلاً طبلتها إلى رق بلدي: أوعى تنساني في شوية عسل نحل، بس رش عليه شوية جزر
(طاحونة) مقتربًا في بطء، يُحيط الظلام ملامحه فيبدو مرعبًا كغزاة الشمال: آه يا عيل، وعملي فيها زعيم
حتى في الأحلام لم يفارقني أفراد الفريق، خمس ساعات أو أكثر قضيتها نائما، كما أشارت أرقام ساعاتي الفسفورية إلى تمام التاسعة والنصف ليلاً، والآن حان وقت اللهو، فركت عيناي ونهضت والظلام الدامس يُحيط بي.. الظاهر النور قاطع..!!
بدأت أتحسس طريقي في غرفة ومكان لم أعتد التجول به من قبل، مستخدما يداي وقدماي وضوء الساعة الواهن، كانت غرفة صغيرة، بإثاث بسيط يبدو القدم واضحًا على جنباته، هناك نافذة إلى أقصى اليمين، لكن للأسف لا يوجد قمر اليوم والظلام أشد سوادًا بالخارج.
هناك أيضــًا دولاب ملابس كبير للغاية يحوي نقوشــًا غير مفهومة، تجلس أعلاه طفلة صغيرة بضفائر ذهبية تحدق في بعيناها الواسعتين فيُخيل للناظر أنهما _عيناها_ تُضيئان، هذا بالإضافة إلى الـ...، مهلاً طفلة... فوق الدولاب..
• مااااااااااااااااااااامي
وأظلمت الأنوار مُجددًا.
<><><><><><>
كانت تجربتي الأولى مع فقدان الوعي، إحساس لا يوصف، وكأنك في اللامكان.. ضوء أبيض يُغشي العيون وأصوات لا تكاد تتبين مصادرها.. موسيقية لبعض الوقت وصرخات في معظم الأحيان، ثم يظهر ذلك الملاك بملابسه البيضاء وعصاته ذات النجمة الذهبية مقتربا تملأ أبتسامة ودود وجهه بالكامل.
• أنتِ مين..؟
• مش مهم دلوقت، أنت ليه خايف ومرعوب، أنا مش هأذيك.
• أنتِ.. أنتِ اللي كنتِ فوق الدولاب، صح
• برضه مش مهم دلوقت.. أهلاً بيك
• لاء لاء، إبعدي أيدك، لاء لاء، لاااااااااااااااااااااااااااء
عطسي، ثم أنتفضت لأجد والدتي وقد أحاطتني بذراعيها والدموع تغرق وجهها، بينما يقف بابا وجدو عند حافة الفراش يُمسك كلاً منهما بشمعة كبيرة أزالت بعضــًا من ظلام الغرفة.
• الحمد لله أهو فاق
• كده برضه يا (سمسسم)، كده تخض مامي عليك
• عطسي، أنا فين..؟
لم أستطع إخبارهم عما رأيت، لا عن الدولاب ولا الحلم، سيقولون طفل مذعور يخترع كي لايبقى وحده في الظلام
• جدو.. هوه النور قاطع ليه
• هاهاه، أنت خايف وله إيه، عموما متقلقش، كلها لبكرة الصبح وحجيب اللي يصلحه
• لاء أنا مش خايف وله حاجة، بس بسئل
• هاهاه، ما أنا عارف، أطمئن أنا مش هسيبك وهتنام معايا النهاردة يا سيدي
• معنديش مانع، أهوه برضه أخد بالي منك
أشارت أرقام ساعاتي الفسفورية إلى تمام الحادية عشرة، حينما أصطحبني جدي العزيز إلى غرفته بالطابق الأرضي من منزله ذي الثلاث طوابق، هي أكبر غرف المنزل تقريبا، إذ تحوي غير أثاث غرف النوم المعتاد على مكتبة لم أشاهد ضخامتها في حياتي، ألاف الكتب بلغات مختلفة، لم يجل بخاطري أن يمتلكها جدي أبدًا.
حمل جدي شمعدان ضخم يحوي عشر شمعات كبيرة فأستحال الظلام إلى ضوء نهار، وإن كان اللهيب المتراقص قد أضفى أجواء غير محببة إلى نفسي.
جلست على حافة الفراش الكبير، مُديرًا عيناي في أنحاء الغرفة، أعتقد أنها غرفتين تم ضمهما إذ ينخفض مستوى أرضية المكتبة ببضع درجات عن باقي أرضية الغرفة، هناك شباكين أحدهما كبير يُطل على حديقة المنزل، والثاني صغير يُطل على ردهة المنزل من الداخل.
الغريب وما أثار أنتباهي بشدة هو أختلاف النقوش الموجودة في كل أثاث الغرفة عن ذلك الموجود على دولاب الملابس صغير الحجم نسبيا بالمقارنة إلى باقي قطع الأثاث.
• جدو، ممكن أسئل عن حاجة..؟
• أتفضل، خير
• ليه الدولاب بتاع الهدوم ده شكله ذي ما يكون بتاع حد تاني؟
• هاهاه، حد تاني إذاي يعني..!!
• قصدي يعني، أن شكله مش ذي باقي الحاجات هنا..؟
• آه، ده صحيح، أصل الدولاب الأصلي كبير شوية ومكنش له مكان هنا
• طب، هوه فين..؟
• أسئلتك كتير يا ولد، عموماً.. هوه فوق في الأوضة اللي أغمي عليك فيها.
هنا، أحسست بلسعة عجيبة تسري في أوصالي، بينما وضع جدي الشمعدان الضخم على منضدة كبيرة أمام المكتبة، وأقترب جالسًا بقربي.
• جدو..
• وبعدين، مش هننام وله إيه النهاردة..؟
• معلش، هوه في حد غيرنا في الأوضة دلوقت
التفت جدي يتطلع إلى عيناي الشاخصتان في فضول مُديرًا عيناه في أنحاء الغرفة، ثم أدار وجهه مجددًا إلى متسائلاً:
• أنت شايف إيه..؟
• أحم.. أنا شايف بنت صغيرة، تقريبًا قدي في العمر، شعرها أصفر وعينيها بتنور
• بتنور..!!، هاهاهاهاهاهاهاها
أستلقى جدي على ظهره من شدة الضحك، كيف لا يراها..؟، جالسة فوق أعلى رفوف المكتبة، تتأملني وتبتسم
• الظاهر أنك تعبان فعلاً يا ولد، يالله يالله نام والصبح نبقى نشوف حكاية البنت اللي عينيها بتنور دي
لم أستطع، جدي ما أن أسند رأسه إلى الوسادة حتى غط في النوم وتصاعد صوت الـ (خ خ خ خ خ خ خ خ خ خ)، بينما لم أتمكن حتى من التظاهر بالنوم، وكيف أفعل والفراش يواجه المكتبة، حيث تجلس تلكِ المبتسمة، وكأن ما يعنيها في هذا العالم هو بث الرعب في نفسي.
ظللنا لبعض الوقت نتأمل بعضنا البعض صامتين، ثم سرعان ما غلبني فضول الأطفال وأرتج عقلي بشلال من الأسئلة، من هي..؟، وكيف صعدت إلى هذا المكان العالي، ألا تخشى السقوط..؟، ثم والأهم، لماذا لا يراها جدي.. لماذا..؟
فكرت أن أترك مكاني على الفراش إلى حيث المكتبة، ربما أجد جوابـــًا على أي من أسئلتي، فما كدت أعتدل في جلستي، حتى قفزت الفتاة ذات الشعر الأصفر، وكأنها طائرة ورقية، مُحلقة في سماء الغرفة.. قبل أن تتوقف في الهواء عِند حافة السرير، وقد إزدادت إبتسامتها أتساعًا:
• هاي.. تحب نلعب سوى
أعذروني، فمهما تظاهرت بالحكمة وقوة الشخصية_ بإعتباري زعيم لشلة من المعـ.. من العباقرة_ فلم يكن بإمكاني الصمود مع هذا التطور اللطيف، لذا فبكل شجاعة وبلا تردد أستدرت إلى حيث رأس جدي، وأنحنيت واضعًا فمي في أقرب موضع من أذنه صارخــــًًا:
• الشمعة أنطفت يا مااااااااااااااااااااااااامي
وعادت الأضواء لتُظلم حولي من جديد
<><><><><><>
في الصباح، تناولنا طعام الإفطار دون أي ملمح عما حدث مساءًا.. الواقع أنني لم أحاول الأستفسار هذه المرة، ليس خوفــًا من أن يُفهم موقفي بشكل خاطيء ويتم أتهامي بالجبن أو الفزع الطفولي، أنما كوني أفتقر إلى ما أسئل عنه أساســًا.
صعب جدًا أن تسئل عن شيء لا تدري كنهه، لهذا ألتزمت الصمت، وتظاهرت بالهدوء.. وكأن شيئًا لم يكُن.
• أنا هخرج ألعب بقى يا ماما
• متروحش بعيد يا ولد، خليك قريب جمب البيت
• ليه.. أنا عايز أشوف البحيرة
يبتسم جدي، وقد أنتهى من تناول طعامه، ويجذبني من كتفي ليُجلسني على قدميه مُحيطــًا وسطي بذراعه:
• وبعدين يا سي (سمسم)، معقول برضه تروح البحيرة لوحدك كده، مش أتفقنا هنروح مع بعض بكرة
• هممممممم..، طيب مفيش مانع.. بس المهم أنك متنساش، أنا عايز أعمل حاجات كتير قوي في الكام يوم دول
يتبادل ثلاثتهم _جدي وأبي وأمي_ الضحك والأبتسام، بينما أسرع مغادرًا المنزل إلى حيث الحديقة الواسعة.
لبعض الوقت رحت أركض يمينًا ويسارًا في أنحاء الحديقة الواسعة، أتعلق بأفرع الأشجار، أتحسس الأزهار المتفتحة بأوراقها شديدة النعومة، ألهث خلف بعض الفراخ والأوز.. أمسك (كتكوت) صغير شعر بالرعب ما أنا وضعته أمام وجهي.
ثم لا شيء، صعب جدًا أن تلهو وحدك وقد تعودت حياة الجماعة، جلست على جذع ضخم لا أدري ماذا أفعل، آه لو أن أفراد الفريق هنا الآن.. لما وقف أمامنا شيء، لأستحال الوقت إلى لهو ما بعده لهو.. ولكن أين هم الآن..؟، ألأف الكيلومترات تفصلني عنهم، خسارة.
• وليه خسارة..؟، أنت بس أأمر وأنا أجيبهملك هنا طيارة.
أجفلت متطلعــًا إلى الناحية الأخرى من الحديقة، حيث أقتربت تلك الفتاة ذات الأعين المُضيئة، تسبح في الهواء وهي تبتسم كالعادة، فهببت مُلتصقــًا بالجذع الضخم، بينما توقفت هي على بعد سنتيمترات من مكاني، دون أن تبرح مكانها في الهواء.
• ما رديتش يعني، تحب أجيبهملك حالاً..؟
• همــ.. هما مين دول.؟، أنـ..أنتِ عايزة إيه بالضبط.
• أنت خايف ليه؟، أنا عايزة ألعب معاك، تحب أجيب أصحابك عشان نلعب كلنا سوى
كدت أصرخ مجددًا، طالبًا عون الكبار، ثم توقفت في اللحظة الأخيرة، وقد ألمني للغاية أن يتغلب علي الخوف للمرة الثالثة، فتماسكت.. وعدت أجلس مستنشقــًا أكبر كم من هواء المزارع النقي، ومحدقــًا بتلك المبتسمة مستفسرًا.
• أنتِ عفريتة..؟!!!!!!!!
• هاهاهاه، لاء طبعًا، هو في عفاريت بتطلع في النور..؟، العفاريت بتستخبا في الضلمة عشان تخض الناس
• آمال أنتِ إيه..؟
• أنا (سولي)، الساحرة المبتسمة
أبتلعت ريقي متظاهرًا بالامبالاة، وكأنني أقابل ساحر أو ساحرة كل يوم، بينما أبتسمت هي في خبث تتطلع بعيناها الواسعتين في ملامحي:
• هاه، أجيبهم وله معدتش عايز تلعب..؟
• لاء عايز، بس لما العيال يجيوا أقولهم تبقى إيه..؟
• هممممم، بسيطة.. قولهم دي صاحبتي الساحرة
• هع هع، ساحرة.. ياماما العيال دي بيخافوا من الصراصير.. أقوم أقولهم دي ساحرة!!
• لاء فالح.. آمال هيعرفوا إذاي جم هنا لو مقلتش أني ساحرة..؟
منطق معقول، أفراد الفريق لن يستوعبوا مسألة السحر تلك، وستندلع الأسئلة كلفح الحمم، ويضيع الوقت كالمعتاد في محاولات الشرح والتفسير، المشكلة الحقيقية التي تواجه أي عبقري أو زعيم عند تعرضه لموقف يحتاج رد فعل سريع، هي التأثر بالمناخ المُحيط، فلو أنك بمكان يسمح بصفاء الذهن وحسن ترتيب الأفكار لما أستغرق الوصول إلى حل أعتى المشكلات سوى بضع لحظات، بينما يختلف الحال تماما في أمكنة من الصعب للغاية أن تجد موضعًا بها لتسند رأسك، فما بالك بالتفكير..!!
• أنتَ لسه هتفكر، أنا هبقى أتصرف بعدين
وبينما تواصل (سولي) سباحتها في الهواء بمنتهى اللامبالاة، ظهر أفراد الفريق حولي بغتة وقد كست ملامحهم علامات الحيرة والخوف، خاصة مع مشهد السباحة الهوائي المتفرد.
(بسبس) وهو يتوارى خلفي معتصرًا كفي بين فكيه: واد يا (حُسّ).. كراماتك يا عم الشباب، أحنا فين وتبقى مين بسلامتها
(العشوائي) وقد أنخفضت نبرات صوته بقدرة قادر 360 درجة كاملة: والنبي يا زعيم، أوعى تكون دي الله أما أحفظنا..؟
(طاحونة) وقد تعلق بغصن قريب، متظاهرًا بكونه الأكثر شجاعة: ما ترد يا بني آدم.. مش شايف العيال دمهم هرب
كان من الصعب للغاية أن تصل مبرراتي لأفراد الفريق وسط الصراخ والعويل الصادر عن أفواههم، الأسواء أن (سولي) قد أعجبها ما تراه فأتسعت أبتسامتها أكثر وتعالت ضحكاتها تملأ أجواء الحديقة..
• ولد يا (سمسم)، إيه الصوت ده..؟، أنت في حد معاك..؟!!!
• لا أبدًا يا مامي، أنا لوحدي أهوه
جذبت أفراد الفريق بعيدًا في أقصى ركن بالحديقة، وأشرت إلى (سولي) فسبحت في الهواء تتبعنا.
• جري إيه يا عيل منك له، ده جزاتي أني عايزكم تلعبوا معايا
تنحنح ثلاثتهم في حرج، بينما أعينهم لا تفارق حركات (سولي) العشوائية في الهواء.
(بسبس) يقترب من مكاني، فأضع كفاي في جيب السروال: عداك العيب يا (حُسّ)، بس مش تقولنا تبقى مين طنط، وإذاي جينا هنا..؟
(سولي) مكشرة عن أسنانها، تطوح العصاة ذات النجمة: طنط..!!!، طنط ده إيه، أنا أسمي (سولي) منك له
(طاحونة) وقد ألتصق بـ (العشوائي) كما لو أنهما توءم سيامي: هو حضرتكِ تبقي عفريتة..؟
(سولي): مش بالضبط..
(العشوائي): طب أنتِ تقربي لـ الله أما أحفظنا الله أما أحفظنا، اللي بيقولوا عليه شمهورش
(سولي) ههههههههههههههههه، برضه مش بالضبط، ثم مفيش حاجة أسمها شمهورش
الثلاثة في صوت واحد: آمال أنتِ مين..؟ وأحنا جينا هنا إذاي..؟
وبدأ اللعب دون أن نحصل على أي جواب منها، ثم أنتهى بغتة وكأننا بدأنا للتو، للأسف الشديد فأوقات المرح والسعادة دائمًا وأبدًا قليلة وقصيرة، قبل أن تشعر روحك بلذتها وجمالها تتبخر وكأنها لم تكن، بينما يُخرج لك الدهر لسانه، يسخر منك ومن تفاهتك في التعلق بأمور لن تُضيف إلى سجل حياتك شيئًا يُذكر.
أقتربت الساعة من السادسة مساءً، حينما أختفى أفراد الفريق من أمامي وكأنما لم يأتوا أساسًا، فألتفت إلى (سولي)، وقد جلست فوق جذع قريب، عيناي تغالبان دموعهما..
• خسارة، الوقت مر بسرعة
• معلش، المهم تكون أنبسطت
• أنبسطت بس، دي أول مرة أحس فيها بحلاوة اللعب مع العيال المعـ.. قصدي العباقرة دول
• هههههههه، فعلاً دمهم خفيف خالص، بس أبقى قول لأسمه إيه ده يوطي صوته شوية
• هههه (العشوائي)، كان غيرك أشطر، لكن المهم.. أنتِ متأكدة أنهم مش هيفتكروا حاجة م اللي حصل
• طبعًا، أنتَ لسه بتشك في (سولي)..!!!
لم أكن بطبعي من المتشككين، أنما أحببت التأكد، فـ (سولي) أخبرتني أنها ستُعيد أفراد الفريق كما أحضرتهم، ماحية من عقولهم تلك اللحظات التي قضيناها معــًا، حرصًا على سرية وجودها من ناحية، وخوفــًا من فساد عقول أفراد الفريق من ناحية أخرى..!!
• ولد يا (سمسم)
• أيوة يا جدو
• كفاية لعب بقى وتعالى هنا
• حاضر، أنا جي أهوه
ألتفت مبتسمًا لأودع صديقتي (سولي)، ولكنها لم تكن هناك، أختفت.. تبخرت وكأن لم تكن
<><><><><><>
في الأيام الثلاث التالية، طال بحثي عنها دون جدوى، حتى صرت مقتنعًا بأن عقلي قد أفتعل كل ما مررت به، هذا مؤكد.. وإلا فأين أختفت، ولماذا لم تعد تظهر.. لماذا..؟
• إيه، مالك يا ولد..؟، بقالك كام يوم سرحان وله اللي ضايع منه حاجة
• أسمع ياجدو
• هاه
• أنا هقولك على حاجة، بس أوعى تقول لحد، أحسن أزعل منك وأبطل أديلك العسلية اللي ماما بتديهالي
• ههههههه، ماشي يا سيدي.. قول
لبضع دقائق، قصصت على جدي كل ما يتعلق بـها، بـ (سولي)، منذ اللحظة التي رأيتها أعلى الدولاب في غرفة النوم العلوية، وحتى أختفت بعد أن أنتهى اللعب مع أفراد الفريق في الحديقة منذ ثلاثة أيام.
• هممممممم، أنت بتقول إن أسمها (الساحرة المبتسمة)..؟
• أيوة، هي قالت كده
علت وجه جدي أبتسامة غامضة، تحمل من الخبث وعدم التصديق كمًا هائلاً، ثم نهض متجهًا إلى سُلم ضخم لم أنتبه لوجوده إلا حين جذبه جدي واضعًا إياه في مواجة المكتبة، بالتحديد في النقطة التي كانت تجلس بأعلى رفوفها (سولي) يوم أن رأيتها لثاني مرة..
• إيه يا جدو، أنت هتدور جمب الكتب..؟
• لاء.. أنا هدور عليها وسط الكتب
لم أفهم مغزى العبارة إلا حينما هبط جدي بعد دقائق، حاملاً بين يديه كُتيب متوسط الحجم تعلوه الأتربة..
• مش برضه هي دي..؟
حدقت في غلاف الكتاب غير مستوعب، فأستدار جدي إلى ركن آخر مُزيحًا أتربة الدهر عن الغلاف، ثم مُعيدًا أياه _الغلاف_ أمام وجهي مكررًا نفس العبارة:
• مش برضه هي دي..؟
مجددًا حدقت في الكتاب بأوراقه التي صارت أقرب إلى السواد منها إلى اللون الأصفر علامة على القدم، بينما الغلاف ملون، تتوسطه صورة لفتاة صغيرة تسبح وسط السحب، وحولها مجموعة من الطيور حمائم وعصافير.. ويمام، صورتها هي، صورة (سولي)..!!
• أنا مش فاهم، أنا أول مرة أشوف الكتاب ده هنا
أقترب جدي جالسًا بقربي على حافة الفراش، واضعًا الكتاب على الكومود المجاور للسرير حيث نجلس في غرفته:
• مش مهم تكون شفته هنا
• لاء يا جدو، أنتَ كده قصدك إني بألف حدوتة من أسم الكتاب
هز جدي رأسه في عدم أقتناع، ثم جذب الكتاب مرة آخرى، مقلبًا صفحاته بسرعة، ليتوقف عند صفحة بعينها وضعها أمامي مُشيرًا إلى رسم ضخم يحتل ثُلثي الصفحة، رسم لتلك الصغيرة (سولي) وهي تلعب مع بعض الأطفال في حديقة منزل ضخم، كان عدد الأطفال أربعة، كان أحدهم طويل القامة عن باقي رفاقه، كان يلعبون لعبة لا يمكن أن تُخطئها العين أو تسهوا عنها الذاكرة.. لعبة قضيت ورفاقي نصف وقتنا ذلك اليوم في ممارستها..!!
• إيه رأيك..؟
• أنا.. أنا مش فاهم، صدقني يا جدو دي أول مرة بشوف فيها الكتاب ده
لأول مرة في حياتي أشعر بكل هذه المهانة، كيف ساقني القدر إلى هذا الموقف السخيف..؟، كيف أصبح (حُسّ) الزعيم متهم بتأليف القصص وأختلاق الحكايات الوهمية لجذب الأنتباه..؟، كيف..؟
كان تبرير جدي: أنني شعرت بالوحدة كوني أبتعد عن رفاق الطفولة لفترة كبيرة، فأخترع عقلي تلك القصص كمحاولة للهروب من الواقع والسباحة في عالم خيالي مسل، ريثما أعود إلى رفاقي، بل لقد أكد جدي أنه لم يغفل عني ذاك اليوم _الذي أزعم حسب رأيه أنني لعبت ورفاقي به_ بل أنه كان دائم المتابعة لي من نوافذ البيت، وأنني قضيت كل الوقت أركض خلف الأوز والطيور الأليفة التي تملأ حديقة المنزل.!!!!
• مش ممكن، مش ممكن أبدًا يا جدو
• بسيطة، إيه رأيك نتصل بإي حد من أصحابك ونسأله..؟
• أيوة، نتصل بـ..، لكن نتصل إذاي، دي قالتلي أنها هتنسيهم كل حاجة
• تاني، أسمع.. أنا بحبك عشان أنت ولد مُطيع وذكي، تقدر تقولي أنت عايز إيه من حكاية ذي دي..؟
• مش عايز والله، أنا عايزك تصدقني بس
• يووووووووه، نام.. نام والصبح هنشوف حل للموضوع ده
أنام، بهذه السهولة.. مستحيل، أنطفئت أضواء المنزل بالكامل، أوشك الفجر على الحلول ولم يُغمض لي جفن، أين ذهبت..؟، لماذا أختفت على هذا النحو..؟، لماذا تركتني وحدي في هذا الموقف.. لماذا..؟
زيييييييييء، تك تك تك تك تك تك
أنقطع حبل أفكاري بتلك الأصوات الخافتة، فألتفت نحو مصدره حيث باب الغرفة والمزلاج..، أقتربت على أطراف أصابعي، بجسد مرتعش وذهن مكدود من كثرة التفكير، مادًا يميني إلى حيث هو المزلاج.. وفجأة
• هاي.. أتأخرت عليك..؟
<><><><><><>
في طريق عودتنا إلى القاهرة، أسترخى جسدي تمامًا في المقعد الخلفي لسيارة جدي الذي أصر على أن يُعيدنا بنفسه، خاصة ووالدي لم يستطع الحضور لمشاغله..
مكثت في مكاني متظاهرًا بالنوم، وذكري الأيام السبعة تركض أمامي في مشاهد متتابعة، كلها لن تُمحى من ذاكرتي بسهولة، كلها بلا أستثناء.. خاصة تلك المشاهد المتعلقة بها، بـ (سولي) الساحرة المبتسمة.
لازالت كلماتها، يوم أن رأيتها للمرة الأخيرة، ترن في أذني، كانت حزينة لإفشائي سر وجودها أمام جدي، كادت تختفي من حياتي للأبد، عشان طلعت عيل، ثم تراجعت لإحساسها ببراءة تصرفي.
إنها تحيا منذ الأزل في عقول الأطفال ممن يماثلونها عمرًا، تلهو وتمرح وتلعب معهم، تقضي أسعد الأوقات بصحبتهم، ثم تختفي مخلفة أفضل الذكريات وأقربها في قلوب وعقول كل من صادفها، وتعرف إليها.
المؤسف أنني لن أتمكن من رؤيتها إلا في الأحلام، لن أراها على أرض الواقع إلا لو زرت جدي ومنزله.
الطريف في الأمر، كان موقف جدي ووالدتي، لقد تصورا أن مكروهًا قد أصابني، بل كادا يستسلمان لنصيحة واحدة من فلاحات القرية بإقامة زار من أجلي..!!!!!!!!!!
طريف جدًا ما يُفكر به الكبار، أن تفكيرهم حال مصادفته لأمور صعبة التفسير يقفز قفزًا نحو أقرب الحلول وأيسرها، العفاريت، ذلك التفسير الذي تتوقف معه، عادة، كل محاولات التفكير والبحث المنطقي والسليم وتبدأ مرحلة أخرى من سوء التصرف والأفعال غير المقبولة، دينيًا وخُلقيًا.. للأسف.
الإنسان ومهما تطورت علومه، في قلبه وعقله نقاط بالغة الإعتام، لن تُضيئها ألاف العلوم والمعارف.. أبدًا.
<><><><><><>
أنطلقت أشجار الطريق الزراعي، بكل ما أوتيت من قوة، تركض كالوحوش على جانبي العربة التي تُقلني مع والَداي إلى منزل جدي الريفي بمدينة الفيوم.
والفيوم، لمن لا يعرف، هي واحدة من محافظات مصرنا الغالية، بعض العامة يُطلق عليها (أول خط الصعيد).. بإعتبار أن محافظات الوجه القبلي تبدأ بها فعلياً، والمحافظة يقع في نطاقها واحد من أجمل المناطق السياحية على وجه الأرض، "وادي الريان" وهو بحق بشلالاته من أجمل المشاهد التي يمكن أن تقع عليها عيناك، بالإضافة إلى وجود "بحيرة قارون" بما تمثله من أسرار وغموض وجمالاً يخلب الألباب.
اليوم هو الخميس، رابع أيام إجازة نصف العام، أخيراً وافق أبي على تلبية الدعوة التي وصلته من جدي لوالدتي بقضاء بعض الوقت في منزل جدي الريفي، سبعة أيام كاملة سأقضيها وسط المزارع والحقول الخضراء، سألعب والهو واشاهد البلهارسيا وجها لوجه لأول مرة في حياتي، بعد أن سئمت من مطالعتها في كُتب الأحياء والعلوم.
• مامي..
• نعم يا (سمسم)..؟
• لسه فاضل كتير ونوصل لبيت جدو
• هاهاهاه، مستعجل أوي، ما أنت لسه مكلمه أمبارح في التليفون
• لاء، أنا مستعجل على اللعب، هو يعني جدو هيطير..!!
طوال الطريق وأنا أفكر في كم اللعب والمغامرات الجديدة التي سأخوضها هناك، في أرض جديدة تطُــأها قدمي للمرة الأولى، صحيح أنني وللمرة الأولى من مدة ليست بالقصيرة أبتعد عن أصدقائي وأفراد فريقي (بسبس)، (طاحونة)، (العشوائي).. صحيح أنني لن أواجه البعبيع لسبعة أيام كاملة.. ولكن حُمى التجديد والبحث عن المختلف لا تُقاوم.
• حضر نفسك يا سيدي، كلها ربع ساعة ونوصل
• بصحيح يا مامي
• أسمع يا (سمسم)
• نعم يا بابا
• عايزك تبقى ولد مؤدب، متعملش مشاكل، ومتضايقش جدك ذي عوايدك، أنت عارف أني مش هقدر أقعد معاكم أكثر من يومين عشان شغلي، هاه هتبقى راجل..؟؟
• عوكيه يا بابا، راجل ومش هعمل مشاكل، كُن مطمئنًا.
كان الأستقبال حافلاً، فطير مشلتت.. عسل نحل.. جبنة قديمة، وخلافه من الأصناف الريفية التي يسيل لها اللعاب، ورغم أن الوقت بعد تناول الطعام لم يكن قد تجاوز الرابعة عصرًا، إلا أنني شعرت بالتعب والإرهاق الشديد، ربما من رحلة السيارة، أو من دسامة الطعام، أو ربما من الأثنين معًا.. المهم أنني قد تعلقت بأصابع جدي أكاد لا أرى ما أمامي هامسًا أني أرغب في النوم حالاً، ثم أنطفئت الأنوار أمامي.
(بسبس) مُستندًا إلى حافة الفراش: يا عيل، كده تلهط الفطير لوحدك.. أخص عليك، يا معفن
(العشوائي) صارخــًا في أذني مُحيلاً طبلتها إلى رق بلدي: أوعى تنساني في شوية عسل نحل، بس رش عليه شوية جزر
(طاحونة) مقتربًا في بطء، يُحيط الظلام ملامحه فيبدو مرعبًا كغزاة الشمال: آه يا عيل، وعملي فيها زعيم
حتى في الأحلام لم يفارقني أفراد الفريق، خمس ساعات أو أكثر قضيتها نائما، كما أشارت أرقام ساعاتي الفسفورية إلى تمام التاسعة والنصف ليلاً، والآن حان وقت اللهو، فركت عيناي ونهضت والظلام الدامس يُحيط بي.. الظاهر النور قاطع..!!
بدأت أتحسس طريقي في غرفة ومكان لم أعتد التجول به من قبل، مستخدما يداي وقدماي وضوء الساعة الواهن، كانت غرفة صغيرة، بإثاث بسيط يبدو القدم واضحًا على جنباته، هناك نافذة إلى أقصى اليمين، لكن للأسف لا يوجد قمر اليوم والظلام أشد سوادًا بالخارج.
هناك أيضــًا دولاب ملابس كبير للغاية يحوي نقوشــًا غير مفهومة، تجلس أعلاه طفلة صغيرة بضفائر ذهبية تحدق في بعيناها الواسعتين فيُخيل للناظر أنهما _عيناها_ تُضيئان، هذا بالإضافة إلى الـ...، مهلاً طفلة... فوق الدولاب..
• مااااااااااااااااااااامي
وأظلمت الأنوار مُجددًا.
<><><><><><>
كانت تجربتي الأولى مع فقدان الوعي، إحساس لا يوصف، وكأنك في اللامكان.. ضوء أبيض يُغشي العيون وأصوات لا تكاد تتبين مصادرها.. موسيقية لبعض الوقت وصرخات في معظم الأحيان، ثم يظهر ذلك الملاك بملابسه البيضاء وعصاته ذات النجمة الذهبية مقتربا تملأ أبتسامة ودود وجهه بالكامل.
• أنتِ مين..؟
• مش مهم دلوقت، أنت ليه خايف ومرعوب، أنا مش هأذيك.
• أنتِ.. أنتِ اللي كنتِ فوق الدولاب، صح
• برضه مش مهم دلوقت.. أهلاً بيك
• لاء لاء، إبعدي أيدك، لاء لاء، لاااااااااااااااااااااااااااء
عطسي، ثم أنتفضت لأجد والدتي وقد أحاطتني بذراعيها والدموع تغرق وجهها، بينما يقف بابا وجدو عند حافة الفراش يُمسك كلاً منهما بشمعة كبيرة أزالت بعضــًا من ظلام الغرفة.
• الحمد لله أهو فاق
• كده برضه يا (سمسسم)، كده تخض مامي عليك
• عطسي، أنا فين..؟
لم أستطع إخبارهم عما رأيت، لا عن الدولاب ولا الحلم، سيقولون طفل مذعور يخترع كي لايبقى وحده في الظلام
• جدو.. هوه النور قاطع ليه
• هاهاه، أنت خايف وله إيه، عموما متقلقش، كلها لبكرة الصبح وحجيب اللي يصلحه
• لاء أنا مش خايف وله حاجة، بس بسئل
• هاهاه، ما أنا عارف، أطمئن أنا مش هسيبك وهتنام معايا النهاردة يا سيدي
• معنديش مانع، أهوه برضه أخد بالي منك
أشارت أرقام ساعاتي الفسفورية إلى تمام الحادية عشرة، حينما أصطحبني جدي العزيز إلى غرفته بالطابق الأرضي من منزله ذي الثلاث طوابق، هي أكبر غرف المنزل تقريبا، إذ تحوي غير أثاث غرف النوم المعتاد على مكتبة لم أشاهد ضخامتها في حياتي، ألاف الكتب بلغات مختلفة، لم يجل بخاطري أن يمتلكها جدي أبدًا.
حمل جدي شمعدان ضخم يحوي عشر شمعات كبيرة فأستحال الظلام إلى ضوء نهار، وإن كان اللهيب المتراقص قد أضفى أجواء غير محببة إلى نفسي.
جلست على حافة الفراش الكبير، مُديرًا عيناي في أنحاء الغرفة، أعتقد أنها غرفتين تم ضمهما إذ ينخفض مستوى أرضية المكتبة ببضع درجات عن باقي أرضية الغرفة، هناك شباكين أحدهما كبير يُطل على حديقة المنزل، والثاني صغير يُطل على ردهة المنزل من الداخل.
الغريب وما أثار أنتباهي بشدة هو أختلاف النقوش الموجودة في كل أثاث الغرفة عن ذلك الموجود على دولاب الملابس صغير الحجم نسبيا بالمقارنة إلى باقي قطع الأثاث.
• جدو، ممكن أسئل عن حاجة..؟
• أتفضل، خير
• ليه الدولاب بتاع الهدوم ده شكله ذي ما يكون بتاع حد تاني؟
• هاهاه، حد تاني إذاي يعني..!!
• قصدي يعني، أن شكله مش ذي باقي الحاجات هنا..؟
• آه، ده صحيح، أصل الدولاب الأصلي كبير شوية ومكنش له مكان هنا
• طب، هوه فين..؟
• أسئلتك كتير يا ولد، عموماً.. هوه فوق في الأوضة اللي أغمي عليك فيها.
هنا، أحسست بلسعة عجيبة تسري في أوصالي، بينما وضع جدي الشمعدان الضخم على منضدة كبيرة أمام المكتبة، وأقترب جالسًا بقربي.
• جدو..
• وبعدين، مش هننام وله إيه النهاردة..؟
• معلش، هوه في حد غيرنا في الأوضة دلوقت
التفت جدي يتطلع إلى عيناي الشاخصتان في فضول مُديرًا عيناه في أنحاء الغرفة، ثم أدار وجهه مجددًا إلى متسائلاً:
• أنت شايف إيه..؟
• أحم.. أنا شايف بنت صغيرة، تقريبًا قدي في العمر، شعرها أصفر وعينيها بتنور
• بتنور..!!، هاهاهاهاهاهاهاها
أستلقى جدي على ظهره من شدة الضحك، كيف لا يراها..؟، جالسة فوق أعلى رفوف المكتبة، تتأملني وتبتسم
• الظاهر أنك تعبان فعلاً يا ولد، يالله يالله نام والصبح نبقى نشوف حكاية البنت اللي عينيها بتنور دي
لم أستطع، جدي ما أن أسند رأسه إلى الوسادة حتى غط في النوم وتصاعد صوت الـ (خ خ خ خ خ خ خ خ خ خ)، بينما لم أتمكن حتى من التظاهر بالنوم، وكيف أفعل والفراش يواجه المكتبة، حيث تجلس تلكِ المبتسمة، وكأن ما يعنيها في هذا العالم هو بث الرعب في نفسي.
ظللنا لبعض الوقت نتأمل بعضنا البعض صامتين، ثم سرعان ما غلبني فضول الأطفال وأرتج عقلي بشلال من الأسئلة، من هي..؟، وكيف صعدت إلى هذا المكان العالي، ألا تخشى السقوط..؟، ثم والأهم، لماذا لا يراها جدي.. لماذا..؟
فكرت أن أترك مكاني على الفراش إلى حيث المكتبة، ربما أجد جوابـــًا على أي من أسئلتي، فما كدت أعتدل في جلستي، حتى قفزت الفتاة ذات الشعر الأصفر، وكأنها طائرة ورقية، مُحلقة في سماء الغرفة.. قبل أن تتوقف في الهواء عِند حافة السرير، وقد إزدادت إبتسامتها أتساعًا:
• هاي.. تحب نلعب سوى
أعذروني، فمهما تظاهرت بالحكمة وقوة الشخصية_ بإعتباري زعيم لشلة من المعـ.. من العباقرة_ فلم يكن بإمكاني الصمود مع هذا التطور اللطيف، لذا فبكل شجاعة وبلا تردد أستدرت إلى حيث رأس جدي، وأنحنيت واضعًا فمي في أقرب موضع من أذنه صارخــــًًا:
• الشمعة أنطفت يا مااااااااااااااااااااااااامي
وعادت الأضواء لتُظلم حولي من جديد
<><><><><><>
في الصباح، تناولنا طعام الإفطار دون أي ملمح عما حدث مساءًا.. الواقع أنني لم أحاول الأستفسار هذه المرة، ليس خوفــًا من أن يُفهم موقفي بشكل خاطيء ويتم أتهامي بالجبن أو الفزع الطفولي، أنما كوني أفتقر إلى ما أسئل عنه أساســًا.
صعب جدًا أن تسئل عن شيء لا تدري كنهه، لهذا ألتزمت الصمت، وتظاهرت بالهدوء.. وكأن شيئًا لم يكُن.
• أنا هخرج ألعب بقى يا ماما
• متروحش بعيد يا ولد، خليك قريب جمب البيت
• ليه.. أنا عايز أشوف البحيرة
يبتسم جدي، وقد أنتهى من تناول طعامه، ويجذبني من كتفي ليُجلسني على قدميه مُحيطــًا وسطي بذراعه:
• وبعدين يا سي (سمسم)، معقول برضه تروح البحيرة لوحدك كده، مش أتفقنا هنروح مع بعض بكرة
• هممممممم..، طيب مفيش مانع.. بس المهم أنك متنساش، أنا عايز أعمل حاجات كتير قوي في الكام يوم دول
يتبادل ثلاثتهم _جدي وأبي وأمي_ الضحك والأبتسام، بينما أسرع مغادرًا المنزل إلى حيث الحديقة الواسعة.
لبعض الوقت رحت أركض يمينًا ويسارًا في أنحاء الحديقة الواسعة، أتعلق بأفرع الأشجار، أتحسس الأزهار المتفتحة بأوراقها شديدة النعومة، ألهث خلف بعض الفراخ والأوز.. أمسك (كتكوت) صغير شعر بالرعب ما أنا وضعته أمام وجهي.
ثم لا شيء، صعب جدًا أن تلهو وحدك وقد تعودت حياة الجماعة، جلست على جذع ضخم لا أدري ماذا أفعل، آه لو أن أفراد الفريق هنا الآن.. لما وقف أمامنا شيء، لأستحال الوقت إلى لهو ما بعده لهو.. ولكن أين هم الآن..؟، ألأف الكيلومترات تفصلني عنهم، خسارة.
• وليه خسارة..؟، أنت بس أأمر وأنا أجيبهملك هنا طيارة.
أجفلت متطلعــًا إلى الناحية الأخرى من الحديقة، حيث أقتربت تلك الفتاة ذات الأعين المُضيئة، تسبح في الهواء وهي تبتسم كالعادة، فهببت مُلتصقــًا بالجذع الضخم، بينما توقفت هي على بعد سنتيمترات من مكاني، دون أن تبرح مكانها في الهواء.
• ما رديتش يعني، تحب أجيبهملك حالاً..؟
• همــ.. هما مين دول.؟، أنـ..أنتِ عايزة إيه بالضبط.
• أنت خايف ليه؟، أنا عايزة ألعب معاك، تحب أجيب أصحابك عشان نلعب كلنا سوى
كدت أصرخ مجددًا، طالبًا عون الكبار، ثم توقفت في اللحظة الأخيرة، وقد ألمني للغاية أن يتغلب علي الخوف للمرة الثالثة، فتماسكت.. وعدت أجلس مستنشقــًا أكبر كم من هواء المزارع النقي، ومحدقــًا بتلك المبتسمة مستفسرًا.
• أنتِ عفريتة..؟!!!!!!!!
• هاهاهاه، لاء طبعًا، هو في عفاريت بتطلع في النور..؟، العفاريت بتستخبا في الضلمة عشان تخض الناس
• آمال أنتِ إيه..؟
• أنا (سولي)، الساحرة المبتسمة
أبتلعت ريقي متظاهرًا بالامبالاة، وكأنني أقابل ساحر أو ساحرة كل يوم، بينما أبتسمت هي في خبث تتطلع بعيناها الواسعتين في ملامحي:
• هاه، أجيبهم وله معدتش عايز تلعب..؟
• لاء عايز، بس لما العيال يجيوا أقولهم تبقى إيه..؟
• هممممم، بسيطة.. قولهم دي صاحبتي الساحرة
• هع هع، ساحرة.. ياماما العيال دي بيخافوا من الصراصير.. أقوم أقولهم دي ساحرة!!
• لاء فالح.. آمال هيعرفوا إذاي جم هنا لو مقلتش أني ساحرة..؟
منطق معقول، أفراد الفريق لن يستوعبوا مسألة السحر تلك، وستندلع الأسئلة كلفح الحمم، ويضيع الوقت كالمعتاد في محاولات الشرح والتفسير، المشكلة الحقيقية التي تواجه أي عبقري أو زعيم عند تعرضه لموقف يحتاج رد فعل سريع، هي التأثر بالمناخ المُحيط، فلو أنك بمكان يسمح بصفاء الذهن وحسن ترتيب الأفكار لما أستغرق الوصول إلى حل أعتى المشكلات سوى بضع لحظات، بينما يختلف الحال تماما في أمكنة من الصعب للغاية أن تجد موضعًا بها لتسند رأسك، فما بالك بالتفكير..!!
• أنتَ لسه هتفكر، أنا هبقى أتصرف بعدين
وبينما تواصل (سولي) سباحتها في الهواء بمنتهى اللامبالاة، ظهر أفراد الفريق حولي بغتة وقد كست ملامحهم علامات الحيرة والخوف، خاصة مع مشهد السباحة الهوائي المتفرد.
(بسبس) وهو يتوارى خلفي معتصرًا كفي بين فكيه: واد يا (حُسّ).. كراماتك يا عم الشباب، أحنا فين وتبقى مين بسلامتها
(العشوائي) وقد أنخفضت نبرات صوته بقدرة قادر 360 درجة كاملة: والنبي يا زعيم، أوعى تكون دي الله أما أحفظنا..؟
(طاحونة) وقد تعلق بغصن قريب، متظاهرًا بكونه الأكثر شجاعة: ما ترد يا بني آدم.. مش شايف العيال دمهم هرب
كان من الصعب للغاية أن تصل مبرراتي لأفراد الفريق وسط الصراخ والعويل الصادر عن أفواههم، الأسواء أن (سولي) قد أعجبها ما تراه فأتسعت أبتسامتها أكثر وتعالت ضحكاتها تملأ أجواء الحديقة..
• ولد يا (سمسم)، إيه الصوت ده..؟، أنت في حد معاك..؟!!!
• لا أبدًا يا مامي، أنا لوحدي أهوه
جذبت أفراد الفريق بعيدًا في أقصى ركن بالحديقة، وأشرت إلى (سولي) فسبحت في الهواء تتبعنا.
• جري إيه يا عيل منك له، ده جزاتي أني عايزكم تلعبوا معايا
تنحنح ثلاثتهم في حرج، بينما أعينهم لا تفارق حركات (سولي) العشوائية في الهواء.
(بسبس) يقترب من مكاني، فأضع كفاي في جيب السروال: عداك العيب يا (حُسّ)، بس مش تقولنا تبقى مين طنط، وإذاي جينا هنا..؟
(سولي) مكشرة عن أسنانها، تطوح العصاة ذات النجمة: طنط..!!!، طنط ده إيه، أنا أسمي (سولي) منك له
(طاحونة) وقد ألتصق بـ (العشوائي) كما لو أنهما توءم سيامي: هو حضرتكِ تبقي عفريتة..؟
(سولي): مش بالضبط..
(العشوائي): طب أنتِ تقربي لـ الله أما أحفظنا الله أما أحفظنا، اللي بيقولوا عليه شمهورش
(سولي) ههههههههههههههههه، برضه مش بالضبط، ثم مفيش حاجة أسمها شمهورش
الثلاثة في صوت واحد: آمال أنتِ مين..؟ وأحنا جينا هنا إذاي..؟
وبدأ اللعب دون أن نحصل على أي جواب منها، ثم أنتهى بغتة وكأننا بدأنا للتو، للأسف الشديد فأوقات المرح والسعادة دائمًا وأبدًا قليلة وقصيرة، قبل أن تشعر روحك بلذتها وجمالها تتبخر وكأنها لم تكن، بينما يُخرج لك الدهر لسانه، يسخر منك ومن تفاهتك في التعلق بأمور لن تُضيف إلى سجل حياتك شيئًا يُذكر.
أقتربت الساعة من السادسة مساءً، حينما أختفى أفراد الفريق من أمامي وكأنما لم يأتوا أساسًا، فألتفت إلى (سولي)، وقد جلست فوق جذع قريب، عيناي تغالبان دموعهما..
• خسارة، الوقت مر بسرعة
• معلش، المهم تكون أنبسطت
• أنبسطت بس، دي أول مرة أحس فيها بحلاوة اللعب مع العيال المعـ.. قصدي العباقرة دول
• هههههههه، فعلاً دمهم خفيف خالص، بس أبقى قول لأسمه إيه ده يوطي صوته شوية
• هههه (العشوائي)، كان غيرك أشطر، لكن المهم.. أنتِ متأكدة أنهم مش هيفتكروا حاجة م اللي حصل
• طبعًا، أنتَ لسه بتشك في (سولي)..!!!
لم أكن بطبعي من المتشككين، أنما أحببت التأكد، فـ (سولي) أخبرتني أنها ستُعيد أفراد الفريق كما أحضرتهم، ماحية من عقولهم تلك اللحظات التي قضيناها معــًا، حرصًا على سرية وجودها من ناحية، وخوفــًا من فساد عقول أفراد الفريق من ناحية أخرى..!!
• ولد يا (سمسم)
• أيوة يا جدو
• كفاية لعب بقى وتعالى هنا
• حاضر، أنا جي أهوه
ألتفت مبتسمًا لأودع صديقتي (سولي)، ولكنها لم تكن هناك، أختفت.. تبخرت وكأن لم تكن
<><><><><><>
في الأيام الثلاث التالية، طال بحثي عنها دون جدوى، حتى صرت مقتنعًا بأن عقلي قد أفتعل كل ما مررت به، هذا مؤكد.. وإلا فأين أختفت، ولماذا لم تعد تظهر.. لماذا..؟
• إيه، مالك يا ولد..؟، بقالك كام يوم سرحان وله اللي ضايع منه حاجة
• أسمع ياجدو
• هاه
• أنا هقولك على حاجة، بس أوعى تقول لحد، أحسن أزعل منك وأبطل أديلك العسلية اللي ماما بتديهالي
• ههههههه، ماشي يا سيدي.. قول
لبضع دقائق، قصصت على جدي كل ما يتعلق بـها، بـ (سولي)، منذ اللحظة التي رأيتها أعلى الدولاب في غرفة النوم العلوية، وحتى أختفت بعد أن أنتهى اللعب مع أفراد الفريق في الحديقة منذ ثلاثة أيام.
• هممممممم، أنت بتقول إن أسمها (الساحرة المبتسمة)..؟
• أيوة، هي قالت كده
علت وجه جدي أبتسامة غامضة، تحمل من الخبث وعدم التصديق كمًا هائلاً، ثم نهض متجهًا إلى سُلم ضخم لم أنتبه لوجوده إلا حين جذبه جدي واضعًا إياه في مواجة المكتبة، بالتحديد في النقطة التي كانت تجلس بأعلى رفوفها (سولي) يوم أن رأيتها لثاني مرة..
• إيه يا جدو، أنت هتدور جمب الكتب..؟
• لاء.. أنا هدور عليها وسط الكتب
لم أفهم مغزى العبارة إلا حينما هبط جدي بعد دقائق، حاملاً بين يديه كُتيب متوسط الحجم تعلوه الأتربة..
• مش برضه هي دي..؟
حدقت في غلاف الكتاب غير مستوعب، فأستدار جدي إلى ركن آخر مُزيحًا أتربة الدهر عن الغلاف، ثم مُعيدًا أياه _الغلاف_ أمام وجهي مكررًا نفس العبارة:
• مش برضه هي دي..؟
مجددًا حدقت في الكتاب بأوراقه التي صارت أقرب إلى السواد منها إلى اللون الأصفر علامة على القدم، بينما الغلاف ملون، تتوسطه صورة لفتاة صغيرة تسبح وسط السحب، وحولها مجموعة من الطيور حمائم وعصافير.. ويمام، صورتها هي، صورة (سولي)..!!
• أنا مش فاهم، أنا أول مرة أشوف الكتاب ده هنا
أقترب جدي جالسًا بقربي على حافة الفراش، واضعًا الكتاب على الكومود المجاور للسرير حيث نجلس في غرفته:
• مش مهم تكون شفته هنا
• لاء يا جدو، أنتَ كده قصدك إني بألف حدوتة من أسم الكتاب
هز جدي رأسه في عدم أقتناع، ثم جذب الكتاب مرة آخرى، مقلبًا صفحاته بسرعة، ليتوقف عند صفحة بعينها وضعها أمامي مُشيرًا إلى رسم ضخم يحتل ثُلثي الصفحة، رسم لتلك الصغيرة (سولي) وهي تلعب مع بعض الأطفال في حديقة منزل ضخم، كان عدد الأطفال أربعة، كان أحدهم طويل القامة عن باقي رفاقه، كان يلعبون لعبة لا يمكن أن تُخطئها العين أو تسهوا عنها الذاكرة.. لعبة قضيت ورفاقي نصف وقتنا ذلك اليوم في ممارستها..!!
• إيه رأيك..؟
• أنا.. أنا مش فاهم، صدقني يا جدو دي أول مرة بشوف فيها الكتاب ده
لأول مرة في حياتي أشعر بكل هذه المهانة، كيف ساقني القدر إلى هذا الموقف السخيف..؟، كيف أصبح (حُسّ) الزعيم متهم بتأليف القصص وأختلاق الحكايات الوهمية لجذب الأنتباه..؟، كيف..؟
كان تبرير جدي: أنني شعرت بالوحدة كوني أبتعد عن رفاق الطفولة لفترة كبيرة، فأخترع عقلي تلك القصص كمحاولة للهروب من الواقع والسباحة في عالم خيالي مسل، ريثما أعود إلى رفاقي، بل لقد أكد جدي أنه لم يغفل عني ذاك اليوم _الذي أزعم حسب رأيه أنني لعبت ورفاقي به_ بل أنه كان دائم المتابعة لي من نوافذ البيت، وأنني قضيت كل الوقت أركض خلف الأوز والطيور الأليفة التي تملأ حديقة المنزل.!!!!
• مش ممكن، مش ممكن أبدًا يا جدو
• بسيطة، إيه رأيك نتصل بإي حد من أصحابك ونسأله..؟
• أيوة، نتصل بـ..، لكن نتصل إذاي، دي قالتلي أنها هتنسيهم كل حاجة
• تاني، أسمع.. أنا بحبك عشان أنت ولد مُطيع وذكي، تقدر تقولي أنت عايز إيه من حكاية ذي دي..؟
• مش عايز والله، أنا عايزك تصدقني بس
• يووووووووه، نام.. نام والصبح هنشوف حل للموضوع ده
أنام، بهذه السهولة.. مستحيل، أنطفئت أضواء المنزل بالكامل، أوشك الفجر على الحلول ولم يُغمض لي جفن، أين ذهبت..؟، لماذا أختفت على هذا النحو..؟، لماذا تركتني وحدي في هذا الموقف.. لماذا..؟
زيييييييييء، تك تك تك تك تك تك
أنقطع حبل أفكاري بتلك الأصوات الخافتة، فألتفت نحو مصدره حيث باب الغرفة والمزلاج..، أقتربت على أطراف أصابعي، بجسد مرتعش وذهن مكدود من كثرة التفكير، مادًا يميني إلى حيث هو المزلاج.. وفجأة
• هاي.. أتأخرت عليك..؟
<><><><><><>
في طريق عودتنا إلى القاهرة، أسترخى جسدي تمامًا في المقعد الخلفي لسيارة جدي الذي أصر على أن يُعيدنا بنفسه، خاصة ووالدي لم يستطع الحضور لمشاغله..
مكثت في مكاني متظاهرًا بالنوم، وذكري الأيام السبعة تركض أمامي في مشاهد متتابعة، كلها لن تُمحى من ذاكرتي بسهولة، كلها بلا أستثناء.. خاصة تلك المشاهد المتعلقة بها، بـ (سولي) الساحرة المبتسمة.
لازالت كلماتها، يوم أن رأيتها للمرة الأخيرة، ترن في أذني، كانت حزينة لإفشائي سر وجودها أمام جدي، كادت تختفي من حياتي للأبد، عشان طلعت عيل، ثم تراجعت لإحساسها ببراءة تصرفي.
إنها تحيا منذ الأزل في عقول الأطفال ممن يماثلونها عمرًا، تلهو وتمرح وتلعب معهم، تقضي أسعد الأوقات بصحبتهم، ثم تختفي مخلفة أفضل الذكريات وأقربها في قلوب وعقول كل من صادفها، وتعرف إليها.
المؤسف أنني لن أتمكن من رؤيتها إلا في الأحلام، لن أراها على أرض الواقع إلا لو زرت جدي ومنزله.
الطريف في الأمر، كان موقف جدي ووالدتي، لقد تصورا أن مكروهًا قد أصابني، بل كادا يستسلمان لنصيحة واحدة من فلاحات القرية بإقامة زار من أجلي..!!!!!!!!!!
طريف جدًا ما يُفكر به الكبار، أن تفكيرهم حال مصادفته لأمور صعبة التفسير يقفز قفزًا نحو أقرب الحلول وأيسرها، العفاريت، ذلك التفسير الذي تتوقف معه، عادة، كل محاولات التفكير والبحث المنطقي والسليم وتبدأ مرحلة أخرى من سوء التصرف والأفعال غير المقبولة، دينيًا وخُلقيًا.. للأسف.
تمت بحمد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق