ربما للمرة الأولى نشاهد عن قرب حقول كفر الدعابسة، المنافس الأول لجهاز مخابرات كفر ناعسة ورجله المغوار (هريدي).
حقول عادية المظهر بأعواد الزرع الخضراء وأطفال تلهو، وحيوانات ومياه الترعة الكبيرة التي تقطع حقول الكفر أفقيا، لا شئ غير طبيعي بالمرة بإستثناء ذلك الحقل البعيد..!!
واحد من حقول الذرة الواقع على الحدود الشرقية للكفر، تبدو به تحركات غير منطقية، ومساحة شبه مربعة في منتصفه تماما وقد إنتُزع ما بها من أعواد الذرة، بل والأغرب قيام البعض بمحاولة بدائية لتسوية هذه المساحة برش الماء على الأرض وسحب الأتربة الطينية بإستخدام العصي..!!.
إضف إلى ذلك الحراسة المكثفة والكردون الأمني الذي يطوق الحقل بمجموعة من عتاة الكفر وأقوى رجاله..؟
وداخل حدود الحقل.. نقترب أكثر حيث يدور حديث بين أثنين من رجال الحراسة، بملامحهم الغليظة وملابسهم المميزة وتلك العصي عظيمة المظهر، والشنبات التي وكما نقول عنها تصلح لكي تقف عليها كتيبة صقور كاملة.
• " دولي يا (جعيدي)، لهو إحنا بنوعمل إيه بالمظبوط "
يلتقط (جعيدي) نفسا عميقا نافخا صدره، مقربا فاه من أذن زميله وكأنه على وشك الإدلاء بسر القنبلة الذرية:
• " شوف يا (غندور)، كل اللي أعرفه أن حضرة العمدة بذات نفسيه هوه اللي طلب يجلعوا الزرع من أهنه "
• " واه، وليه عاد.. أوبعدين همن عيملوا إيه بالمظبوط، عيزرعو بانكو أياك "
• " بانكو..!؟، أجفل خاشمك ياحزين، حد يوعلنا تبجى سنتنا طين "
• " خليص، بس جولي أنت.. همن بيجلعوا الزرع ليه، وليه عيخلونا نحرس المُطرح ده بالذات، يكش خايفين لحد يسرج الطين..!! "
<><><><><>
ضوء النهار يتسلل من نافذة صغيرة بمقر جهاز مخابرات كفر ناعسة، أول مقر أمني من البوص على مستوى العالم أجمع، كوخ قديم بسيط المظهر وسط زراعات القصب، تنتشر على أجنابه الأربعة مجموعة من الحراس بالغي القوة والشراسة واليقظة والمهارات القتالية المُتعددة بِدأ بالمساكة وأنتهاء بالحجلة.
داخل الكوخ.. وحول مائدة مُستطيلة الشكل، وبين أكوام من أوراق الخص يجلس الحاج (أبو كماله)، رئيس الجهاز والمسئول عن ملفات العملاء في الكفور والنجوع المجاورة، وعن يمينه الحاج (أبو طاقية)، مسئول الأمن، وعن يساره الحاج (معفر)، مسئول الشفره والبرقيات، وفي الجهة المقابلة من المائدة يجلس (هريدي) وإلى جواره والده الحاج (هدهد).
الصمت التام يُغلف الأجواء، (أبو كمالة) يراجع آخر التقارير الواردة من عملاء الجهاز، (أبو طاقية) يُغالب النعاس، (معفر) يكتفي بمتابعة مايحدث في صمت، بينما أنهمك (هريدي) ووالده في لعبة أشبه بالسيجة.. وفجأة ينتفض الأخير واقفا مصفقا بيديه وموليا ظهره لوالده الحاج (هدهد).
• " هع هع، وغلبتك يابوي.. أكده يبجي خامس مورة،ههع ههع "
تسقط أوراق (أبو كمالة)، ينتفض (أبو طاقية) مُستيقظا، يبتسم (معفر)، بينما الفرحة الطاغية تُطل من عيني (هريدي) ويكاد يقفز فوق المائدة راقصا لولا خوفه من تحطمها.!!
فجأة يدوي صوت الطااااااااااااااااااااخ الرهيب، فيعُم الصمت وتعلو الوجوه إبتسامة شامته.. سرعان ماتتبدد مع إنشغال الجميع، فيعود (أبوكمالة) و (معفر) لمراجعة التقارير ويواصل (أبو طاقية) نعاسه، بينما يعاود (هريدي) ووالده اللعب وكأن شيئا لم يكن.. بإستثناء تلك البقعة شديدة الإحمرار على مؤخرة عنق (هريدي)..!!
<><><><><>
للمرة الثانية نقتحم حدود كفر الدعابسة، حيث دوار الكبير.. عمدة الكفر الشيخ (جبيلي).. وهو كأى دوار عمدة مُقام على مساحة شاسعة بعيدا عن منازل أهل الكفر، يبدو أقرب إلى الفيلا بطابقيه ودرجاته الصاعدة.
على يمين ويسار الباب يقف أثنين من الخفر بالبالطو الأخضر وغطاء الرأس الأحمر والبندقية العتيقة وحزام الطلقات الشهير، المنزل نفسه يبدو أشبه بالغرزة مع ضباب المعسل المندفع من كل نوافذ الطابق الأرضي بلا أستثناء.
في الداخل حيث الردهة الكبيرة وعلى أريكة في المواجهة يجلس العمدة (جبيلي) بكرشه الضخم وملامحه الغليظة وشنبه الكبير يحتسي الشاي الصعيدي ثقيل الشكل والمذاق بيمناه، ويدخن الشيشة بيسراه في تلذذ وأستمتاع..
عن يمينه ويساره يجلس نحو عشرين رجلا على نفس الشاكلة يتناوبون تدخين الشيشة.. وأقداح الشاي في أيديهم تعلوها الرغاوي وكأنها عرقسوس!!.
أصوات الضحك الهستيري تنتشر فجأة وبلا مقدمات.. ودون أي أسباب تستحق، فقط يكفي أن يبتسم أحد الحضور لتجد الجالسين عن يمنه ويساره وقد تمرغوا على الأرض من شدة الضحك.. وفي النهاية تعجز عن إيجاد بداية منطقية لنوبة الضحك الغريبة المتكررة هذه.
كركرة الشيشة مزاج لا يعلوها شيء في الصعيد، وهى عند استخدامها بكثرة كحالتنا هنا تبدو أشبه بالعزف الموسيقي.. العزف النشاز المؤلم لأي أذن حساسة.
الوضع داخل دوار العمدة لم يتغير منذ نحو الثلاث ساعات، وكأنك تشاهد لقطات مجمعة من فيلم قديم.. كل شيء ثابت على نحو سخيف، حتى ذلك الخفير المجفف كأوراق الشاي متعثر الخطى.. وقد تخطى باب الدوار وأندفع إلى حيث يجلس العمدة وقد غمر وجهه عرق بارد غزير وجحظت عيناه.. حتى هو يبدو تماما كما يظهر الخفراء في الأفلام القديمة.
• " عتجول إيه يا ولد.. أنتَ متوكد ما اللي عمبتجوله ده.. آباييييييي "
كان العمدة وقد أعتدل في مجلسه تاركا مبسم الشيشة يسقط من يده والإنفعال يغلف ملامحه وهو يستمع إلى ذاك الخفير المجفف الغارق في الإنفعال بدوره.
ومع سقوط مبسم الشيشة وصوت العمدة الصارخ، عم الصمت المكان والتفتت كل الوجوه نحو العمدة والخفير.. وتشجعت بعض الألسنة تتسأل..
• " واه.. فيه إيه يا آبا (جبيلي).. خير آمال.. "
• " حوصل إيه ياعم الحاج.. حد دراله حادة..؟ "
• " مالك يا آبا (جبيلي).. الولد ده جالك إيه..؟ "
يبتسم العمدة في وقار.. يضع كوب الشاي جانبا على حافة الأريكة، ويستند بيديه على كتف أحد الرجال الواقفين إلى جواره ليقف بقامته العريضة فوق منتصف الأريكة بالضبط، فترتفع الأعين وتلعق الألسنة الشفاه إنتظارا لما سيصرح به الحاج (جبيلي).
لحظات توقف خلالها أندفاع دخان المعسل من نوافذ الدوار.. وبدت القاعة الكبيرة كالقبر.. ثم أبتسم العمدة.. ومع أبتسامته تغيرت ملامح وجهه إلى مايشبه بقليل من التخيل ملامح العزيز (سيد قشطة) ثم أنفجر في نوبة من نوبات الضحك الهستيري التي يرتج معها كرشه الضخم.. ليشاركه الجميع الضحك دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عن السبب.
ولبضع دقائق تجمد المشهد داخل دوار عمدة كفر الدعابسة على نوبة الضحك الغريبة هذه، قبل أن يلوح العمدة نفسه بيديه طالبا الهدوء وهو يجاهد لتعبئة صدره بالأكسجين بعد أن كادت تزهق روحه من كثرة الضحك.
• " خابرين يا ردالة.. آني عمبضحك على إيه..؟ "
يجيب الجميع في نفس واحد وقد شملهم الفضول.
• " إيه يا حاج..؟!!!! "
• " الدهاز يا ولاد.. الدهاز كلاته نايم على ودنه وله دراينين باللي عنعمله أهنه.. يهعهعهعهعهع "
أنفجر الجميع في الضحك من جديد، فذكر أسم الجهاز (جهاز مخابرات كفر ناعسة) مقترنا بالنوم على الودان.. يعني أن كل شيء يسير كما خطط له العمدة، كل شيء يسير على ما يرام وبعيدا عن أنف (هريدي) ووالده.
<><><><><>
ضوء القمر.. ذاك الضيف قليل الظهور في ليال الشتاء حالكة السواد، كفر ناعسة حيث الهدوء الشديد بعد صلاة العشاء وقد أعتكف كلٌ ببيته إستعدادا ليوم جديد.
البعض يشاهد قنوات الـ ART والبعض مع أوربت.. هناك من يتابع أحدث أفلام (جاكي شان) في قهوة الكفر التي يسهر روادها حتى الساعات الأولى من الفجر، وهناك من يحاول عبثا إصلاح وصلة الدش المركزي التي صرخ منها أصحاب القنوات المشفرة دون جدوى.
كل شيء يبدو طبيعيا للغاية، شوارع الكفر مهجورة تماما في هذا التوقيت.. قديما كان الجميع يتأهب للنوم بعد صلاة العشاء بينما الآن.. يهرع الجميع إلى المقاهي المنتشرة لمتابعة الأفلام والمباريات والأغنيات الحديثة.. حتى ولو لم يدركوا المغزى الحقيقي من كلماتها وتعبيرات مطربيها.
وهناك على شاطىء الترعة الكبيرة بالكفر يبدو شبح أثنين من الرجال وقد أنحنى أحدهما ناظرا في مياه الترعة الراكدة، بينما الثاني يضع شيئا في فمه.. ربما مزمار أو ناي..!
• " عتـ عتـ عتعمل إيه يا (هريدي) د د دلوك، الجَمر مش طا طالع..؟"
آه.. (هريدي) وصديقه العبيط (ولد بهانة).. ولكن ماذا يفعلون هنا، وما الذي يقصده (ولد بهانة) بعبارته السابقة هذه، على أنه تصحيحا لما سبق.. فالأخ العزيز (ولد بهانة) عبيط الكفر والجاسوس المتنقل لجهاز مخابرات الكفر، لم يكن يحمل مزمار أو ناي كما تصورت.. هذا عود قصب.
• " يا ولد دأنا الواعر (هريدي).. ماعيهمنيش جَمر وله حادة واصل، أني عشوف في الضلمة يا ولد، خد بالك أنت م الخلجات وأوعاك تدوس عليها بردليك المهببة دي.. "
يستند (ولد بهانة) إلى جذع الشجرة الضخمة الموجودة على حافة الترعة وهو يتناول عود القصب في إستمتاع، بينما يحمل جلباب (هريدي) على كتفه، وعلى حافة الترعة وقف (هريدي) يمارس بعض تمرينات الأحماء ثم يخلع بلغته ويلقى بعمامته إلى (ولد بهانة) ليُمسكها مع الجلباب، قبل أن يقفز إلى مياه الترعة بلا تردد.
والمتابع لما يفعله (هريدي) الآن بلا شك سيصيبه الجنون، فهو يمارس نوعا من التدريبات العسيرة للغاية خاصة مع المياه الراكدة والجو الشتوي المثلج.
(هريدي) ومنذ التحاقه بجهاز مخابرات الكفر يحرص على مكافحة البلهارسيا، بيديه العاريتين، وفي جنح الظلام.. ودون أى مساعدة أو أدوات خاصة.
نوع خاص للغاية من العقول ينتمي إليه هذا الـ (هريدي)..
• " التجيت حاجة يـ.. يـ.. يا (هريدي) "
• " له يا ولد.. العلهارسيا ولد الجنية توك ما خطيت الميه فُص ملح وداب.. يكش حد جلهم أني داي.. ؟!!! "
• " أ.. أ.. أنتَ ما شيفش يـ..يـ... يا (هريدي).. أ.. أجيبلك حادة تنورلك..؟؟"
• " حادة إيه يا فالح، يكش عتجول للجَمر ينور.. هعهعهع "
مع الظلام الحالك.. وأنشغال (هريدي) بالبحث عن فلول البلهارسيا الهاربة، لم يكن بمقدوره رؤية ما يفعله (ولد بهانة) ولا ما الذي ينتويه.
ولكن فجأة أنتشرت في الجو رائحة شياط شديد ودخان كثيف، مصحوب بضوء متراقص وطقطقة غريبة، فالتفت (هريدي) متعجبا لتصطدم عيناه بـ (ولد بهانة) وقد علت وجهه أبتسامة متخلفة وهو يقف على حافة الترعة ممسكا قطعة من الخشب يتدلى من طرفها جلباب وعمة (هريدي) والنيران تلتهم كليهما التهاما..!!!
• " هاه.. عتـ عتشوف كده يـ يـ يا (هريدي)..!! "
<><><><><>
زقزة العصافير.. تلك المخلوقات الصغيرة هى أول من يستيقظ مع أضواء الصباح الأولى.. ترفرف بأجنحتها وتحلق عاليا باحثة عن رزق كتبه الله سبحانه وتعالى لكل عباده على وجه البسيطة، فكلٌ ميسر لما خُلق له.
للمرة الثالثة نخترق حدود كفر الدعابسة حيث المزروعات الخضراء والحيوانات المنتشرة هنا وهناك، وذاك الحقل ذي المساحة المقتلعة في منتصفه.
تطورت الأمور كثيرا منذ آخر زيارة لنا، تبدو المساحة أياها وقد تمت تسويتها على نحو جيد إلى حد كبير، هناك الكثير من الرجال داخل حدود الحقل، البعض يُمسك أعواد من الخشب.. البعض يُثبت أعوادا في تلك المساحة بشكل أفقي ورأسي.. الأمر كله يشبه إلى حد ما إقامة أساس خشبي بدائي لبناء مجهول..!!
الحراسة حول حدود الحقل المذكور أصبحت أكثر شدة عن ذي قبل، فقد تضاعف عدد الحراس إلى الضعف على الأقل، وتم تزويد الحراس بالشوم والعصي.. بينما يحمل البعض البنادق، هناك سر ما يحتاج إلى كل هذا الحرص، سر خطير على ما يبدو.
يعلو صوت نهيق شديد، فيلتفت الرجال من داخل حدود الحقل إلى عربة صغيرة يجرها ثلاثة من الحمير، يُمسك بمقودها طفل يقترب من الخامسة عشرة، بينما العربة نفسها تحمل كمية كبيرة وجديدة من أعواد الخشب.
• " اتورخت ليه يا (مخيمر)..؟ "
يبتسم الصغير وهو يتجاوز الحراس بعربته وحميره المنهكة من ثقل الحمل.
• " ماتواخذنيش يا حاج (سالم).. الحمل تجيل.. والحمير تعبانة.. هو أبوي العمدة مش ناوي يجيب حد يساعدني ؟"
• " هع.. بوك العمدة يجيب حد.. يكش عتحلم يا ولد..
ثم يقترب الحاج (سالم) وهو على ما يبدو المسئول عن متابعة ما يحدث هنا، واضعا فاه على أذن الصغير كأنما يخشى أن يُلتقط ما ينوي إخباره لـ (مخيمر).
• " بوك العمدة يموت ع الجرش.. ولوله حكاية الجَمر دي.. ماكانش شغلك م الأصل "
• " بصوح.. يطلع إيه الجَمر ده يا آبا (سالم)..!؟ "
يضع الحاج (سالم) يده على كتف (مخيمر) يقوده حيث المساحة التي يجري بها العمل على قدم وساق، والأخير يجذب الحمير والعربة خلفه.
• " والله يا ولدي ما أنا عارف.. لكن سمعت العمدة مورة بيكلم المركز في التلفون، كان بيزعج وبيسعل ميتى هيطلع الجَمر، كان غضبان ع الآخر.. وطول الوقت عمبيجول لزمن أذل كفر ناعسة والكل كليلة "
• " واه.. هيا الحكاية فيها كفر ناعسة.. مش بعيد نلاجي (هريدي) روخر أهنه جريب "
يبتسم الحاج (سالم) ثم يشير إلى بعض الرجال ليعاونوا (مخيمر) على تفريغ حمولة العربة من أخشاب.
وعلى تبة عالية قريبة من ذلك الحقل، يرقد شخص معفر الملابس يلوك قطعة من القصب في فمه، يتابع عن كثب ما يحدث داخل حدود الحقل.. ورغم ملامحه البلهاء شديدة الوضوح، علت شفتيه أبتسامة كبيرة وهو يغادر موقعه بمنتهى الحرص والهدوء ليغادر الكفر كله، إلى حيث أتى.. إلى مقر جهاز مخابرات كفر ناعسة.
<><><><><>
مشهد متكرر على الحائط الخلفي لمقر جهاز مخابرات كفر ناعسة، هذا لو أعتبرنا أعواد البوص تصلح كحائط من الأساس، حيث يقف واحد من الحراس واضعا يسراه تحت إبطه ويمناه مفتوحة خلف أذنه اليسرى.. تلك الوقفة الشهيرة للعبة (صلح) الشعبية الشهيرة، وقد وقف خلفه أثنين آخرين من الحراس بالإضافة إلى (هريدي)، وأنهمك الأربعة في اللعب وكأنما لم يعد يعنيهم من الكون شيئا.
طاااااااااااااااخ
• " واه.. أنتَ يا (هريدي).. "
• " هع.. موش أني يا حزين.. لو عطيتك كف عخرملك ودنك "
• " آمال مين عاد.. أني بجالي ساعة عم بترزعوا فيا.. إيه يكش العفاريت هى اللي عمبتضربني "
• " ألعب يا ولد.. ولو مش كد اللعب.. دول داييييييي "
لا أعتقد أن هذه اللعبة هى الأخرى من ضمن التدريبات الخاصة بـ (هريدي).. قد تكون محاولة من جانبه لزيادة سرعة رد الفعل، أو تحمل أقصى درجات الآلم.!!!
وعموما لم يستغرق اللعب كثيرا _كالمعتاد_ إذ سرعان ما علاّ صوت الحاج (أبو كمالة) مناديا (هريدي).. فأسرع الأخير بهبد الحارس المسكين كف أخير، وأنطلق إلى حيث أجتماع الجهاز.
داخل الكوخ لم يكن من الصعب أستنتاج حالة التوتر التي تعم الجميع، أكواب الشاي تملاء مائدة الاجتماعات والكثير من أواق الخص المشفرة بين يدي وأمام الحاج (أبو كمالة)، بالإضافة إلى وجود (ولد بهانة) بنفسه.. وهو حدث يدرك (هريدي) أن ورائه مصيبة إن لم تكن كارثة رهيبة.
• " أتورخت ليه يا دحش، عمبنديلك من ياجي ساعة"
• " معلهش يا بوي، هو فيه إيه عاد"
يتبادل الجميع نظرات تفيض توترا، بينما يشير الحاج (معفر) بالجلوس لـ (هريدي)، فيبتسم الأخير بارما شنبه الضخم بيسراه وجاذبا أحد أقفاص الفراخ، التي تستعمل داخل المقر كمقاعد، ليجلس جوار (ولد بهانة) الغائب في عالم القصب الذي يعشقه.
• " تخدلكش عـ عـ عجلة يا هر هر هريدي"
• " مش وجته يا ولد عاد، لما نعرف إيه الحكاية الأول"
يتنهد الحاج (أبو كمالة) فيلتفت له الجميع حيث يبدأ الحديث بقراءة أحد الأوراق الموضوعة أمامه:
• " البرجية دي وصلت من يادي ساعة، بعتها الولد (حسون) الرادل بتاعنا في كفر الدعابسة.."
مع ذكر أسم كفر الدعابسة أنتبهت حواس (هريدي) وأعتدل في مجلسه مادا عنقه للأمام، معترضا وجه والده دون قصد، فينفخ الأخير في غضب و..............
طاااااااااااااااخ
• " مش وجته يا حاج (هدهد) عاد.."
• " واه يا (أبو طاقية) ما شيفش الولد لزق خلقته ف وشي كيف، ما عيزنيش أسمع وله إيه"
ينتفض (أبو كمالة) واقفا في غضب، ملوحا بورقة الخص في يده.
• " وبعدين.. ما عنخلصش وله إيه، خلينا في اللي أحنا فيه عاد.. البرجية دي فيها نصيبة.."
يقف (هريدي) بدوره، وقد غطى مؤخرة عنقه بيمناه، وهو يتراجع بعيدا عن المنضدة وعن أبيه في نفس الوقت.
• " خير يا عمي.. "
• " ما خيرش يا ولد، الدعابسة مانوينش ياديبوها لبر، الولد (حسون) _ وهو بالمناسبة شقيق (ولد بهانة) من والده_ رجب عمليات غامضة وغير منطجية في الغيط الكبير يمت دوار (جبيلي) عمدة كفر الدعابسة.."
يعاود (أبو كمالة) الجلوس بينما يلتقط (معفر) طرف الحديث مكملا:
• " الظاهر أن الدعابسة عيبنوا جَمر، شكلهم أكده ععيسبجونا في غزوة الفضا يا ردالة"
• " واه، فضا إيه عاد.. أني مفهمش"
طاااااااااااااااخ
• " ومن ميتى عتفهم يا حزين، أصبر لحد الكلام ما يُخلص.. كك خابط "
يدخل (ولد بهانة) للمرة الأولى دائرة الحديث، وفمه يمتلئ بالقصب.
• " خوي (حسون) دلي وهوه عم بيناولني الورجة، إن الحاج (جبيلي) عيطلع جَمر، بس أني مفهمتش برضيك "
• " الحكاية مش محتادة، خابرين الغناوي والعفلام اللي عم بنشوفها ليل نهار ف التفزيون، أهوه الحدات دي بيطلعوها الفضا من أيوتها بلد، أو بعدين أيوتها بلد غير الأولنية عايزة تشوف الحادات دي عتركب جمرَ وتشعلجه في الفضا، تجوم تجدر تتفرج وكماني تجدر تخلي أيوتها بلد تانية غير الأولنية والتانية تشوف أيوتها حادة عتمولها، فاهمين.. "
• " لع.................. "
الواقع أن المناقشة كانت حامية للغاية، بذل خلالها الحاج (أبو كمالة) والحاج (معفر) جهدا فوق العادي لكي يستوعب الباقون أمر الجَمر هذا، ولم يكن الأمر سهلا على الإطلاق.. فهو شيء صعب الفهم على أعتى العقول فما بالك بـ (هريدي) و(ولد بهانة)..!
وبإختصار.. يبدو أن ما توصل إليه جهاز مخابرات كفر ناعسة، أن كفر الدعابسة ينتوي إطلاق قمر صناعي أو محطة إرسال فضائية تمهيدا لغزو إعلامي دعبساوي مكثف..
شيء على غرار قنوات الدعابسة الإخبارية والغنائية..!!، وهذا يعني أن الدعابسة سيسطرون على فضاء المنطقة إعلاميا.. وهي كارثة بكل المقاييس.
<><><><><>
سماء بلا نجوم.. وقمر يتوارى خجلا خلف سحب قطنية متعددة الأشكال والأحجام، أصوات صفير ونقنقة عالية تصدر عن صراصير المزارع وضفادعها.. حيث يجلس أثنان من رجال الحراسة على حدود ذاك الحقل بكفر الدعابسة.
حول دائرة نارية أشعلاها من أعواد خشبية تحيطها بعض قوالب الطوب، واضعين براد الشاي مشوه الشكل من كثرة التصاقه بالنيران.
• " دولي يا واد يا (غندور)، همن عيعملو إيه بالمضبوط.. يكش عيبنوا برد حمام "
يبتسم (غندور) مثبتا عيناه على البرج الخشبي الذي قارب الأنتهاء، وقد أرتفع لنحو الأمتار الخمسة، ثم يرشف من كوب الشاي الأشبه بمسحوق طيني، ويلتفت لزميله (جعيدي) مجيبا:
• " مكدبش عليك يا خوي، أني مفهمش حادة واصل.. يكن أني سمعت حديت عمبيتنطور في الكفر عن جَمر وما خبرش إيه "
• " واه، جَمر إيه..؟، يكش العمدة رايد ينور الغيط في العتمة "
• " له يا فالح، جَمر.. جَمر مش لمبة، الناس عتجول أنه العمدة بده يعومل تلفزيون على أسم الكفر، وعيطلع الجَمر ده عشان الكل كليلة يشوف الكفر واللي عيوحصل فيه.. تعرف يا ولد.. "
• " إيه..؟ خير يا أبوي..!!! "
• " سمعت أن العمدة عيسرح ردالة بالله أم أحفظنا، اللي بيجولوا عليها كامرة، ويصور ف النسواين عمال على بطال "
• " واه، عتجول إيه يا حزين.. ومين عيسيبوا يعومل أكده، ده كان يبجى آخر يوم في عمر اللي يعوملها، يكش فاكرينا خواجات، وله يكش فاكرينا خواجات، طب ما يصورنا أحنا عاد.. داأني حتى أستحميت عمنول "
وعلى مقربة من الحارسين المنهمكين في نقاش حاد، يقترب ظل زاحف ضخم الملامح مستترا بالظلام الحالك، ساحبا خلفه شيء أشبه بجركن تفوح منه رائحة غريبة..!
ما أن أقترب ذاك الظل حيث يجلس الحارسين، حتى بدأ يرقبهما من خلف أعواد الزرع الكثيف لبعض الوقت، قبل أن يعاود الزحف ليستقر خلف ظهريهما بالضبط.
ودون أن يتحرك أو يصدر عنه أدنى صوت، مكث ذاك الظل في موضعه مستمعا لحديث الحارسين لما يقارب الساعة، في نفس الوقت الذي بدأ النعاس يغالب الحارسين وهما يحاولان عبسا إيقاظ بعضهما بمواصلة الحديث وشرب مساحيق الطيـ.. الشاي.
وبعد نصف ساعة أخرى، وضح أن مقاومة الحارسين قد بلغت مداها، إذ تهاوت رأسيهما على كتفي بعضهما وأرتفعت أصوات الشخير، فنفض الظل عن ملابسه الأتربة ناهضا دون أن يتخلى عن ذلك الجركن في يسراه، بينما تحمل يمناه عصا غليظة، أقترب بها خلف الحارسين الغارقين في النوم، و........
ددددددددب، طاااااااااااااااااخ
تهاوى الحارسين على الأرض وقد فقدا الوعي، ليظهر ذاك الظل على ضوء نيران الحارسين الموشكة على الخمود،
(هريدي).. هذا (هريدي) بنفسه وقد علت وجهه أبتسامة نصر وهو يتحسس أعواد الخشب المقام بها البرج العالي، ثم وهو يسكب محتويات الجركن على قاعدة البرج في ظفر.
جاذبا عودا مشتعل من الحطب، وهو يتراجع نحو الحقول المظلمة متمتا:
• " هع، أني الواعر (هريدي).. محدش يكدر يغلب كفر ناعسة والدهاز واصل.. واصل.."
ورغم أقتراب خبو نيران الحارسين إلا أن الحقل وربما الكفر بأكمله قد أضئ بوهج أشد قوة وضرواة، وهج البرج الذي أشعله (هريدي) وأختفى بعدها وكأن لم يكن.
<><><><><>
رغم سحب البارحة وصقيع المساء، أرتفعت الرطوبة ودرجة الحرارة إلى حد غير مسبوق مع أضواء الصباح، وعلى الحدود ما بين كفري ناعسة والدعابسة.. بدا وكأن هناك إعصارين من الأتربة قادم من كلا الإتجاهين، وما هي إلا لحظات حتى أتضحت معالم سحب الغبار المندفعة.
حشود هائلة من الرجال تقابلت ليقع التصادم الهائل على الحدود.. الغريب أنه تصادم بلا اشتباك.. فقط هتافات وهديد ووعيد، والكثير من الفاظ سوقية.
• " يا ويلكم يا ردالة ناعسة "
• " هع، أيوه ردالة يا بهيم منك ليه "
• " التار يا ولد الدحش منك ليه "
• " عفارم عليكم.. ما أنتوا خابرين أنيكو دحوش أهه"
وفي الوقت ذاته، أقتربت بضع عربات تجرها الخيول والحمير من كلا الكفرين، ففي كفر ناعسة حملت العربات رجال جهاز مخابرات الكفر، وفي كفر الدعابسة حملت العربات العمدة وبعض الخفر، لتلتقي العربات على الحدود فيُفسح لها طريق اللقاء، حيث يبادر العمدة (جبيلي) دون مغادرة عربته.
• " بجي هي دي الجيرة يا ردالة، تحرجوا أرضنا ليه عاد، ليه..؟"
يبتسم (أبو كمالة) بينما يغادر الحاج (هدهد) العربة التي تقله مع (هريدي) و(ولد بهانة)، ليشق طريقه حتى عربة (جبيلي).
• " جيرة إيه يا واد أنتَ، يكش كت عايزنا نسكت على الموسخرة اللي كت ناوي عليها عاد..؟"
• " واد، أني واد يا أبا (هدهد)، معلهش.. يكن موسخرة أيه..؟ "
• " واه.. عتستعبط وله إيه، مش البرج اللي عم كت بتبنيه ده كت عتشعلج عليه جَمر تفرج بيه الناس على حريم الكفر والنجع بحاله "
يغادر (جبيلي) العربة بدوره، وقد علت ملامحه دهشة عظيمة.
• " عتجول إيه يا أبا (هدهد)، مين اللي دال أكده، الحكاية كلتها أني أشتريت طبج كيف اللي حداكم في الكفر، وكت عشعلجه على البرج وبعدين أوزع على بيوت الكفر كلاته، كيف ما بيعملوا في البندر، وأهو الواحد يشغل الجرشنات برضيك، أو بعدين يا أبا (هدهد) هو برضيك حريم الكفر والنجع بحاله ينفعوا يصوروا، ده الردالة تجاطيعهم مسمسة عنيهم "
يستغرق الوقوف في ضحك متواصل، عدا (هريدي) غير المستوعب لما يجري حوله.
• " به.. يعني إيه عاد، الحكاية كلاتها طلعت ع الفاضي وله إيه..؟ "
يتوقف الضحك وتلتفت الأعين إلى (هريدي)، بينما يعتلي الحاج (هدهد) عربة العمدة (جبيلي) مشيرا بيده نحو أبنه مبتسما.
• " الدحش ده هوه اللي حرج البرج يا ردالة، عليكوا بيه.. "
• " الله أكبر.. الله أكبر "
ترتفع سحابة غبار هائلة، وتختفي الملامح والوجوه لدقائق ثلاث يعود بعدها الهدوء والسكينة على حدود كفري ناعسة والدعابسة، حيث وضعت يافطة كبيرة على واحدة من أشجار الفاكهة، رقد أسفلها جسد مألوف تم عجن ملامحه!!
"اللي معيشربش اللبن.. عيدراله كيف عمو (هريدي)"
حقول عادية المظهر بأعواد الزرع الخضراء وأطفال تلهو، وحيوانات ومياه الترعة الكبيرة التي تقطع حقول الكفر أفقيا، لا شئ غير طبيعي بالمرة بإستثناء ذلك الحقل البعيد..!!
واحد من حقول الذرة الواقع على الحدود الشرقية للكفر، تبدو به تحركات غير منطقية، ومساحة شبه مربعة في منتصفه تماما وقد إنتُزع ما بها من أعواد الذرة، بل والأغرب قيام البعض بمحاولة بدائية لتسوية هذه المساحة برش الماء على الأرض وسحب الأتربة الطينية بإستخدام العصي..!!.
إضف إلى ذلك الحراسة المكثفة والكردون الأمني الذي يطوق الحقل بمجموعة من عتاة الكفر وأقوى رجاله..؟
وداخل حدود الحقل.. نقترب أكثر حيث يدور حديث بين أثنين من رجال الحراسة، بملامحهم الغليظة وملابسهم المميزة وتلك العصي عظيمة المظهر، والشنبات التي وكما نقول عنها تصلح لكي تقف عليها كتيبة صقور كاملة.
• " دولي يا (جعيدي)، لهو إحنا بنوعمل إيه بالمظبوط "
يلتقط (جعيدي) نفسا عميقا نافخا صدره، مقربا فاه من أذن زميله وكأنه على وشك الإدلاء بسر القنبلة الذرية:
• " شوف يا (غندور)، كل اللي أعرفه أن حضرة العمدة بذات نفسيه هوه اللي طلب يجلعوا الزرع من أهنه "
• " واه، وليه عاد.. أوبعدين همن عيملوا إيه بالمظبوط، عيزرعو بانكو أياك "
• " بانكو..!؟، أجفل خاشمك ياحزين، حد يوعلنا تبجى سنتنا طين "
• " خليص، بس جولي أنت.. همن بيجلعوا الزرع ليه، وليه عيخلونا نحرس المُطرح ده بالذات، يكش خايفين لحد يسرج الطين..!! "
<><><><><>
ضوء النهار يتسلل من نافذة صغيرة بمقر جهاز مخابرات كفر ناعسة، أول مقر أمني من البوص على مستوى العالم أجمع، كوخ قديم بسيط المظهر وسط زراعات القصب، تنتشر على أجنابه الأربعة مجموعة من الحراس بالغي القوة والشراسة واليقظة والمهارات القتالية المُتعددة بِدأ بالمساكة وأنتهاء بالحجلة.
داخل الكوخ.. وحول مائدة مُستطيلة الشكل، وبين أكوام من أوراق الخص يجلس الحاج (أبو كماله)، رئيس الجهاز والمسئول عن ملفات العملاء في الكفور والنجوع المجاورة، وعن يمينه الحاج (أبو طاقية)، مسئول الأمن، وعن يساره الحاج (معفر)، مسئول الشفره والبرقيات، وفي الجهة المقابلة من المائدة يجلس (هريدي) وإلى جواره والده الحاج (هدهد).
الصمت التام يُغلف الأجواء، (أبو كمالة) يراجع آخر التقارير الواردة من عملاء الجهاز، (أبو طاقية) يُغالب النعاس، (معفر) يكتفي بمتابعة مايحدث في صمت، بينما أنهمك (هريدي) ووالده في لعبة أشبه بالسيجة.. وفجأة ينتفض الأخير واقفا مصفقا بيديه وموليا ظهره لوالده الحاج (هدهد).
• " هع هع، وغلبتك يابوي.. أكده يبجي خامس مورة،ههع ههع "
تسقط أوراق (أبو كمالة)، ينتفض (أبو طاقية) مُستيقظا، يبتسم (معفر)، بينما الفرحة الطاغية تُطل من عيني (هريدي) ويكاد يقفز فوق المائدة راقصا لولا خوفه من تحطمها.!!
فجأة يدوي صوت الطااااااااااااااااااااخ الرهيب، فيعُم الصمت وتعلو الوجوه إبتسامة شامته.. سرعان ماتتبدد مع إنشغال الجميع، فيعود (أبوكمالة) و (معفر) لمراجعة التقارير ويواصل (أبو طاقية) نعاسه، بينما يعاود (هريدي) ووالده اللعب وكأن شيئا لم يكن.. بإستثناء تلك البقعة شديدة الإحمرار على مؤخرة عنق (هريدي)..!!
<><><><><>
للمرة الثانية نقتحم حدود كفر الدعابسة، حيث دوار الكبير.. عمدة الكفر الشيخ (جبيلي).. وهو كأى دوار عمدة مُقام على مساحة شاسعة بعيدا عن منازل أهل الكفر، يبدو أقرب إلى الفيلا بطابقيه ودرجاته الصاعدة.
على يمين ويسار الباب يقف أثنين من الخفر بالبالطو الأخضر وغطاء الرأس الأحمر والبندقية العتيقة وحزام الطلقات الشهير، المنزل نفسه يبدو أشبه بالغرزة مع ضباب المعسل المندفع من كل نوافذ الطابق الأرضي بلا أستثناء.
في الداخل حيث الردهة الكبيرة وعلى أريكة في المواجهة يجلس العمدة (جبيلي) بكرشه الضخم وملامحه الغليظة وشنبه الكبير يحتسي الشاي الصعيدي ثقيل الشكل والمذاق بيمناه، ويدخن الشيشة بيسراه في تلذذ وأستمتاع..
عن يمينه ويساره يجلس نحو عشرين رجلا على نفس الشاكلة يتناوبون تدخين الشيشة.. وأقداح الشاي في أيديهم تعلوها الرغاوي وكأنها عرقسوس!!.
أصوات الضحك الهستيري تنتشر فجأة وبلا مقدمات.. ودون أي أسباب تستحق، فقط يكفي أن يبتسم أحد الحضور لتجد الجالسين عن يمنه ويساره وقد تمرغوا على الأرض من شدة الضحك.. وفي النهاية تعجز عن إيجاد بداية منطقية لنوبة الضحك الغريبة المتكررة هذه.
كركرة الشيشة مزاج لا يعلوها شيء في الصعيد، وهى عند استخدامها بكثرة كحالتنا هنا تبدو أشبه بالعزف الموسيقي.. العزف النشاز المؤلم لأي أذن حساسة.
الوضع داخل دوار العمدة لم يتغير منذ نحو الثلاث ساعات، وكأنك تشاهد لقطات مجمعة من فيلم قديم.. كل شيء ثابت على نحو سخيف، حتى ذلك الخفير المجفف كأوراق الشاي متعثر الخطى.. وقد تخطى باب الدوار وأندفع إلى حيث يجلس العمدة وقد غمر وجهه عرق بارد غزير وجحظت عيناه.. حتى هو يبدو تماما كما يظهر الخفراء في الأفلام القديمة.
• " عتجول إيه يا ولد.. أنتَ متوكد ما اللي عمبتجوله ده.. آباييييييي "
كان العمدة وقد أعتدل في مجلسه تاركا مبسم الشيشة يسقط من يده والإنفعال يغلف ملامحه وهو يستمع إلى ذاك الخفير المجفف الغارق في الإنفعال بدوره.
ومع سقوط مبسم الشيشة وصوت العمدة الصارخ، عم الصمت المكان والتفتت كل الوجوه نحو العمدة والخفير.. وتشجعت بعض الألسنة تتسأل..
• " واه.. فيه إيه يا آبا (جبيلي).. خير آمال.. "
• " حوصل إيه ياعم الحاج.. حد دراله حادة..؟ "
• " مالك يا آبا (جبيلي).. الولد ده جالك إيه..؟ "
يبتسم العمدة في وقار.. يضع كوب الشاي جانبا على حافة الأريكة، ويستند بيديه على كتف أحد الرجال الواقفين إلى جواره ليقف بقامته العريضة فوق منتصف الأريكة بالضبط، فترتفع الأعين وتلعق الألسنة الشفاه إنتظارا لما سيصرح به الحاج (جبيلي).
لحظات توقف خلالها أندفاع دخان المعسل من نوافذ الدوار.. وبدت القاعة الكبيرة كالقبر.. ثم أبتسم العمدة.. ومع أبتسامته تغيرت ملامح وجهه إلى مايشبه بقليل من التخيل ملامح العزيز (سيد قشطة) ثم أنفجر في نوبة من نوبات الضحك الهستيري التي يرتج معها كرشه الضخم.. ليشاركه الجميع الضحك دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عن السبب.
ولبضع دقائق تجمد المشهد داخل دوار عمدة كفر الدعابسة على نوبة الضحك الغريبة هذه، قبل أن يلوح العمدة نفسه بيديه طالبا الهدوء وهو يجاهد لتعبئة صدره بالأكسجين بعد أن كادت تزهق روحه من كثرة الضحك.
• " خابرين يا ردالة.. آني عمبضحك على إيه..؟ "
يجيب الجميع في نفس واحد وقد شملهم الفضول.
• " إيه يا حاج..؟!!!! "
• " الدهاز يا ولاد.. الدهاز كلاته نايم على ودنه وله دراينين باللي عنعمله أهنه.. يهعهعهعهعهع "
أنفجر الجميع في الضحك من جديد، فذكر أسم الجهاز (جهاز مخابرات كفر ناعسة) مقترنا بالنوم على الودان.. يعني أن كل شيء يسير كما خطط له العمدة، كل شيء يسير على ما يرام وبعيدا عن أنف (هريدي) ووالده.
<><><><><>
ضوء القمر.. ذاك الضيف قليل الظهور في ليال الشتاء حالكة السواد، كفر ناعسة حيث الهدوء الشديد بعد صلاة العشاء وقد أعتكف كلٌ ببيته إستعدادا ليوم جديد.
البعض يشاهد قنوات الـ ART والبعض مع أوربت.. هناك من يتابع أحدث أفلام (جاكي شان) في قهوة الكفر التي يسهر روادها حتى الساعات الأولى من الفجر، وهناك من يحاول عبثا إصلاح وصلة الدش المركزي التي صرخ منها أصحاب القنوات المشفرة دون جدوى.
كل شيء يبدو طبيعيا للغاية، شوارع الكفر مهجورة تماما في هذا التوقيت.. قديما كان الجميع يتأهب للنوم بعد صلاة العشاء بينما الآن.. يهرع الجميع إلى المقاهي المنتشرة لمتابعة الأفلام والمباريات والأغنيات الحديثة.. حتى ولو لم يدركوا المغزى الحقيقي من كلماتها وتعبيرات مطربيها.
وهناك على شاطىء الترعة الكبيرة بالكفر يبدو شبح أثنين من الرجال وقد أنحنى أحدهما ناظرا في مياه الترعة الراكدة، بينما الثاني يضع شيئا في فمه.. ربما مزمار أو ناي..!
• " عتـ عتـ عتعمل إيه يا (هريدي) د د دلوك، الجَمر مش طا طالع..؟"
آه.. (هريدي) وصديقه العبيط (ولد بهانة).. ولكن ماذا يفعلون هنا، وما الذي يقصده (ولد بهانة) بعبارته السابقة هذه، على أنه تصحيحا لما سبق.. فالأخ العزيز (ولد بهانة) عبيط الكفر والجاسوس المتنقل لجهاز مخابرات الكفر، لم يكن يحمل مزمار أو ناي كما تصورت.. هذا عود قصب.
• " يا ولد دأنا الواعر (هريدي).. ماعيهمنيش جَمر وله حادة واصل، أني عشوف في الضلمة يا ولد، خد بالك أنت م الخلجات وأوعاك تدوس عليها بردليك المهببة دي.. "
يستند (ولد بهانة) إلى جذع الشجرة الضخمة الموجودة على حافة الترعة وهو يتناول عود القصب في إستمتاع، بينما يحمل جلباب (هريدي) على كتفه، وعلى حافة الترعة وقف (هريدي) يمارس بعض تمرينات الأحماء ثم يخلع بلغته ويلقى بعمامته إلى (ولد بهانة) ليُمسكها مع الجلباب، قبل أن يقفز إلى مياه الترعة بلا تردد.
والمتابع لما يفعله (هريدي) الآن بلا شك سيصيبه الجنون، فهو يمارس نوعا من التدريبات العسيرة للغاية خاصة مع المياه الراكدة والجو الشتوي المثلج.
(هريدي) ومنذ التحاقه بجهاز مخابرات الكفر يحرص على مكافحة البلهارسيا، بيديه العاريتين، وفي جنح الظلام.. ودون أى مساعدة أو أدوات خاصة.
نوع خاص للغاية من العقول ينتمي إليه هذا الـ (هريدي)..
• " التجيت حاجة يـ.. يـ.. يا (هريدي) "
• " له يا ولد.. العلهارسيا ولد الجنية توك ما خطيت الميه فُص ملح وداب.. يكش حد جلهم أني داي.. ؟!!! "
• " أ.. أ.. أنتَ ما شيفش يـ..يـ... يا (هريدي).. أ.. أجيبلك حادة تنورلك..؟؟"
• " حادة إيه يا فالح، يكش عتجول للجَمر ينور.. هعهعهع "
مع الظلام الحالك.. وأنشغال (هريدي) بالبحث عن فلول البلهارسيا الهاربة، لم يكن بمقدوره رؤية ما يفعله (ولد بهانة) ولا ما الذي ينتويه.
ولكن فجأة أنتشرت في الجو رائحة شياط شديد ودخان كثيف، مصحوب بضوء متراقص وطقطقة غريبة، فالتفت (هريدي) متعجبا لتصطدم عيناه بـ (ولد بهانة) وقد علت وجهه أبتسامة متخلفة وهو يقف على حافة الترعة ممسكا قطعة من الخشب يتدلى من طرفها جلباب وعمة (هريدي) والنيران تلتهم كليهما التهاما..!!!
• " هاه.. عتـ عتشوف كده يـ يـ يا (هريدي)..!! "
<><><><><>
زقزة العصافير.. تلك المخلوقات الصغيرة هى أول من يستيقظ مع أضواء الصباح الأولى.. ترفرف بأجنحتها وتحلق عاليا باحثة عن رزق كتبه الله سبحانه وتعالى لكل عباده على وجه البسيطة، فكلٌ ميسر لما خُلق له.
للمرة الثالثة نخترق حدود كفر الدعابسة حيث المزروعات الخضراء والحيوانات المنتشرة هنا وهناك، وذاك الحقل ذي المساحة المقتلعة في منتصفه.
تطورت الأمور كثيرا منذ آخر زيارة لنا، تبدو المساحة أياها وقد تمت تسويتها على نحو جيد إلى حد كبير، هناك الكثير من الرجال داخل حدود الحقل، البعض يُمسك أعواد من الخشب.. البعض يُثبت أعوادا في تلك المساحة بشكل أفقي ورأسي.. الأمر كله يشبه إلى حد ما إقامة أساس خشبي بدائي لبناء مجهول..!!
الحراسة حول حدود الحقل المذكور أصبحت أكثر شدة عن ذي قبل، فقد تضاعف عدد الحراس إلى الضعف على الأقل، وتم تزويد الحراس بالشوم والعصي.. بينما يحمل البعض البنادق، هناك سر ما يحتاج إلى كل هذا الحرص، سر خطير على ما يبدو.
يعلو صوت نهيق شديد، فيلتفت الرجال من داخل حدود الحقل إلى عربة صغيرة يجرها ثلاثة من الحمير، يُمسك بمقودها طفل يقترب من الخامسة عشرة، بينما العربة نفسها تحمل كمية كبيرة وجديدة من أعواد الخشب.
• " اتورخت ليه يا (مخيمر)..؟ "
يبتسم الصغير وهو يتجاوز الحراس بعربته وحميره المنهكة من ثقل الحمل.
• " ماتواخذنيش يا حاج (سالم).. الحمل تجيل.. والحمير تعبانة.. هو أبوي العمدة مش ناوي يجيب حد يساعدني ؟"
• " هع.. بوك العمدة يجيب حد.. يكش عتحلم يا ولد..
ثم يقترب الحاج (سالم) وهو على ما يبدو المسئول عن متابعة ما يحدث هنا، واضعا فاه على أذن الصغير كأنما يخشى أن يُلتقط ما ينوي إخباره لـ (مخيمر).
• " بوك العمدة يموت ع الجرش.. ولوله حكاية الجَمر دي.. ماكانش شغلك م الأصل "
• " بصوح.. يطلع إيه الجَمر ده يا آبا (سالم)..!؟ "
يضع الحاج (سالم) يده على كتف (مخيمر) يقوده حيث المساحة التي يجري بها العمل على قدم وساق، والأخير يجذب الحمير والعربة خلفه.
• " والله يا ولدي ما أنا عارف.. لكن سمعت العمدة مورة بيكلم المركز في التلفون، كان بيزعج وبيسعل ميتى هيطلع الجَمر، كان غضبان ع الآخر.. وطول الوقت عمبيجول لزمن أذل كفر ناعسة والكل كليلة "
• " واه.. هيا الحكاية فيها كفر ناعسة.. مش بعيد نلاجي (هريدي) روخر أهنه جريب "
يبتسم الحاج (سالم) ثم يشير إلى بعض الرجال ليعاونوا (مخيمر) على تفريغ حمولة العربة من أخشاب.
وعلى تبة عالية قريبة من ذلك الحقل، يرقد شخص معفر الملابس يلوك قطعة من القصب في فمه، يتابع عن كثب ما يحدث داخل حدود الحقل.. ورغم ملامحه البلهاء شديدة الوضوح، علت شفتيه أبتسامة كبيرة وهو يغادر موقعه بمنتهى الحرص والهدوء ليغادر الكفر كله، إلى حيث أتى.. إلى مقر جهاز مخابرات كفر ناعسة.
<><><><><>
مشهد متكرر على الحائط الخلفي لمقر جهاز مخابرات كفر ناعسة، هذا لو أعتبرنا أعواد البوص تصلح كحائط من الأساس، حيث يقف واحد من الحراس واضعا يسراه تحت إبطه ويمناه مفتوحة خلف أذنه اليسرى.. تلك الوقفة الشهيرة للعبة (صلح) الشعبية الشهيرة، وقد وقف خلفه أثنين آخرين من الحراس بالإضافة إلى (هريدي)، وأنهمك الأربعة في اللعب وكأنما لم يعد يعنيهم من الكون شيئا.
طاااااااااااااااخ
• " واه.. أنتَ يا (هريدي).. "
• " هع.. موش أني يا حزين.. لو عطيتك كف عخرملك ودنك "
• " آمال مين عاد.. أني بجالي ساعة عم بترزعوا فيا.. إيه يكش العفاريت هى اللي عمبتضربني "
• " ألعب يا ولد.. ولو مش كد اللعب.. دول داييييييي "
لا أعتقد أن هذه اللعبة هى الأخرى من ضمن التدريبات الخاصة بـ (هريدي).. قد تكون محاولة من جانبه لزيادة سرعة رد الفعل، أو تحمل أقصى درجات الآلم.!!!
وعموما لم يستغرق اللعب كثيرا _كالمعتاد_ إذ سرعان ما علاّ صوت الحاج (أبو كمالة) مناديا (هريدي).. فأسرع الأخير بهبد الحارس المسكين كف أخير، وأنطلق إلى حيث أجتماع الجهاز.
داخل الكوخ لم يكن من الصعب أستنتاج حالة التوتر التي تعم الجميع، أكواب الشاي تملاء مائدة الاجتماعات والكثير من أواق الخص المشفرة بين يدي وأمام الحاج (أبو كمالة)، بالإضافة إلى وجود (ولد بهانة) بنفسه.. وهو حدث يدرك (هريدي) أن ورائه مصيبة إن لم تكن كارثة رهيبة.
• " أتورخت ليه يا دحش، عمبنديلك من ياجي ساعة"
• " معلهش يا بوي، هو فيه إيه عاد"
يتبادل الجميع نظرات تفيض توترا، بينما يشير الحاج (معفر) بالجلوس لـ (هريدي)، فيبتسم الأخير بارما شنبه الضخم بيسراه وجاذبا أحد أقفاص الفراخ، التي تستعمل داخل المقر كمقاعد، ليجلس جوار (ولد بهانة) الغائب في عالم القصب الذي يعشقه.
• " تخدلكش عـ عـ عجلة يا هر هر هريدي"
• " مش وجته يا ولد عاد، لما نعرف إيه الحكاية الأول"
يتنهد الحاج (أبو كمالة) فيلتفت له الجميع حيث يبدأ الحديث بقراءة أحد الأوراق الموضوعة أمامه:
• " البرجية دي وصلت من يادي ساعة، بعتها الولد (حسون) الرادل بتاعنا في كفر الدعابسة.."
مع ذكر أسم كفر الدعابسة أنتبهت حواس (هريدي) وأعتدل في مجلسه مادا عنقه للأمام، معترضا وجه والده دون قصد، فينفخ الأخير في غضب و..............
طاااااااااااااااخ
• " مش وجته يا حاج (هدهد) عاد.."
• " واه يا (أبو طاقية) ما شيفش الولد لزق خلقته ف وشي كيف، ما عيزنيش أسمع وله إيه"
ينتفض (أبو كمالة) واقفا في غضب، ملوحا بورقة الخص في يده.
• " وبعدين.. ما عنخلصش وله إيه، خلينا في اللي أحنا فيه عاد.. البرجية دي فيها نصيبة.."
يقف (هريدي) بدوره، وقد غطى مؤخرة عنقه بيمناه، وهو يتراجع بعيدا عن المنضدة وعن أبيه في نفس الوقت.
• " خير يا عمي.. "
• " ما خيرش يا ولد، الدعابسة مانوينش ياديبوها لبر، الولد (حسون) _ وهو بالمناسبة شقيق (ولد بهانة) من والده_ رجب عمليات غامضة وغير منطجية في الغيط الكبير يمت دوار (جبيلي) عمدة كفر الدعابسة.."
يعاود (أبو كمالة) الجلوس بينما يلتقط (معفر) طرف الحديث مكملا:
• " الظاهر أن الدعابسة عيبنوا جَمر، شكلهم أكده ععيسبجونا في غزوة الفضا يا ردالة"
• " واه، فضا إيه عاد.. أني مفهمش"
طاااااااااااااااخ
• " ومن ميتى عتفهم يا حزين، أصبر لحد الكلام ما يُخلص.. كك خابط "
يدخل (ولد بهانة) للمرة الأولى دائرة الحديث، وفمه يمتلئ بالقصب.
• " خوي (حسون) دلي وهوه عم بيناولني الورجة، إن الحاج (جبيلي) عيطلع جَمر، بس أني مفهمتش برضيك "
• " الحكاية مش محتادة، خابرين الغناوي والعفلام اللي عم بنشوفها ليل نهار ف التفزيون، أهوه الحدات دي بيطلعوها الفضا من أيوتها بلد، أو بعدين أيوتها بلد غير الأولنية عايزة تشوف الحادات دي عتركب جمرَ وتشعلجه في الفضا، تجوم تجدر تتفرج وكماني تجدر تخلي أيوتها بلد تانية غير الأولنية والتانية تشوف أيوتها حادة عتمولها، فاهمين.. "
• " لع.................. "
الواقع أن المناقشة كانت حامية للغاية، بذل خلالها الحاج (أبو كمالة) والحاج (معفر) جهدا فوق العادي لكي يستوعب الباقون أمر الجَمر هذا، ولم يكن الأمر سهلا على الإطلاق.. فهو شيء صعب الفهم على أعتى العقول فما بالك بـ (هريدي) و(ولد بهانة)..!
وبإختصار.. يبدو أن ما توصل إليه جهاز مخابرات كفر ناعسة، أن كفر الدعابسة ينتوي إطلاق قمر صناعي أو محطة إرسال فضائية تمهيدا لغزو إعلامي دعبساوي مكثف..
شيء على غرار قنوات الدعابسة الإخبارية والغنائية..!!، وهذا يعني أن الدعابسة سيسطرون على فضاء المنطقة إعلاميا.. وهي كارثة بكل المقاييس.
<><><><><>
سماء بلا نجوم.. وقمر يتوارى خجلا خلف سحب قطنية متعددة الأشكال والأحجام، أصوات صفير ونقنقة عالية تصدر عن صراصير المزارع وضفادعها.. حيث يجلس أثنان من رجال الحراسة على حدود ذاك الحقل بكفر الدعابسة.
حول دائرة نارية أشعلاها من أعواد خشبية تحيطها بعض قوالب الطوب، واضعين براد الشاي مشوه الشكل من كثرة التصاقه بالنيران.
• " دولي يا واد يا (غندور)، همن عيعملو إيه بالمضبوط.. يكش عيبنوا برد حمام "
يبتسم (غندور) مثبتا عيناه على البرج الخشبي الذي قارب الأنتهاء، وقد أرتفع لنحو الأمتار الخمسة، ثم يرشف من كوب الشاي الأشبه بمسحوق طيني، ويلتفت لزميله (جعيدي) مجيبا:
• " مكدبش عليك يا خوي، أني مفهمش حادة واصل.. يكن أني سمعت حديت عمبيتنطور في الكفر عن جَمر وما خبرش إيه "
• " واه، جَمر إيه..؟، يكش العمدة رايد ينور الغيط في العتمة "
• " له يا فالح، جَمر.. جَمر مش لمبة، الناس عتجول أنه العمدة بده يعومل تلفزيون على أسم الكفر، وعيطلع الجَمر ده عشان الكل كليلة يشوف الكفر واللي عيوحصل فيه.. تعرف يا ولد.. "
• " إيه..؟ خير يا أبوي..!!! "
• " سمعت أن العمدة عيسرح ردالة بالله أم أحفظنا، اللي بيجولوا عليها كامرة، ويصور ف النسواين عمال على بطال "
• " واه، عتجول إيه يا حزين.. ومين عيسيبوا يعومل أكده، ده كان يبجى آخر يوم في عمر اللي يعوملها، يكش فاكرينا خواجات، وله يكش فاكرينا خواجات، طب ما يصورنا أحنا عاد.. داأني حتى أستحميت عمنول "
وعلى مقربة من الحارسين المنهمكين في نقاش حاد، يقترب ظل زاحف ضخم الملامح مستترا بالظلام الحالك، ساحبا خلفه شيء أشبه بجركن تفوح منه رائحة غريبة..!
ما أن أقترب ذاك الظل حيث يجلس الحارسين، حتى بدأ يرقبهما من خلف أعواد الزرع الكثيف لبعض الوقت، قبل أن يعاود الزحف ليستقر خلف ظهريهما بالضبط.
ودون أن يتحرك أو يصدر عنه أدنى صوت، مكث ذاك الظل في موضعه مستمعا لحديث الحارسين لما يقارب الساعة، في نفس الوقت الذي بدأ النعاس يغالب الحارسين وهما يحاولان عبسا إيقاظ بعضهما بمواصلة الحديث وشرب مساحيق الطيـ.. الشاي.
وبعد نصف ساعة أخرى، وضح أن مقاومة الحارسين قد بلغت مداها، إذ تهاوت رأسيهما على كتفي بعضهما وأرتفعت أصوات الشخير، فنفض الظل عن ملابسه الأتربة ناهضا دون أن يتخلى عن ذلك الجركن في يسراه، بينما تحمل يمناه عصا غليظة، أقترب بها خلف الحارسين الغارقين في النوم، و........
ددددددددب، طاااااااااااااااااخ
تهاوى الحارسين على الأرض وقد فقدا الوعي، ليظهر ذاك الظل على ضوء نيران الحارسين الموشكة على الخمود،
(هريدي).. هذا (هريدي) بنفسه وقد علت وجهه أبتسامة نصر وهو يتحسس أعواد الخشب المقام بها البرج العالي، ثم وهو يسكب محتويات الجركن على قاعدة البرج في ظفر.
جاذبا عودا مشتعل من الحطب، وهو يتراجع نحو الحقول المظلمة متمتا:
• " هع، أني الواعر (هريدي).. محدش يكدر يغلب كفر ناعسة والدهاز واصل.. واصل.."
ورغم أقتراب خبو نيران الحارسين إلا أن الحقل وربما الكفر بأكمله قد أضئ بوهج أشد قوة وضرواة، وهج البرج الذي أشعله (هريدي) وأختفى بعدها وكأن لم يكن.
<><><><><>
رغم سحب البارحة وصقيع المساء، أرتفعت الرطوبة ودرجة الحرارة إلى حد غير مسبوق مع أضواء الصباح، وعلى الحدود ما بين كفري ناعسة والدعابسة.. بدا وكأن هناك إعصارين من الأتربة قادم من كلا الإتجاهين، وما هي إلا لحظات حتى أتضحت معالم سحب الغبار المندفعة.
حشود هائلة من الرجال تقابلت ليقع التصادم الهائل على الحدود.. الغريب أنه تصادم بلا اشتباك.. فقط هتافات وهديد ووعيد، والكثير من الفاظ سوقية.
• " يا ويلكم يا ردالة ناعسة "
• " هع، أيوه ردالة يا بهيم منك ليه "
• " التار يا ولد الدحش منك ليه "
• " عفارم عليكم.. ما أنتوا خابرين أنيكو دحوش أهه"
وفي الوقت ذاته، أقتربت بضع عربات تجرها الخيول والحمير من كلا الكفرين، ففي كفر ناعسة حملت العربات رجال جهاز مخابرات الكفر، وفي كفر الدعابسة حملت العربات العمدة وبعض الخفر، لتلتقي العربات على الحدود فيُفسح لها طريق اللقاء، حيث يبادر العمدة (جبيلي) دون مغادرة عربته.
• " بجي هي دي الجيرة يا ردالة، تحرجوا أرضنا ليه عاد، ليه..؟"
يبتسم (أبو كمالة) بينما يغادر الحاج (هدهد) العربة التي تقله مع (هريدي) و(ولد بهانة)، ليشق طريقه حتى عربة (جبيلي).
• " جيرة إيه يا واد أنتَ، يكش كت عايزنا نسكت على الموسخرة اللي كت ناوي عليها عاد..؟"
• " واد، أني واد يا أبا (هدهد)، معلهش.. يكن موسخرة أيه..؟ "
• " واه.. عتستعبط وله إيه، مش البرج اللي عم كت بتبنيه ده كت عتشعلج عليه جَمر تفرج بيه الناس على حريم الكفر والنجع بحاله "
يغادر (جبيلي) العربة بدوره، وقد علت ملامحه دهشة عظيمة.
• " عتجول إيه يا أبا (هدهد)، مين اللي دال أكده، الحكاية كلتها أني أشتريت طبج كيف اللي حداكم في الكفر، وكت عشعلجه على البرج وبعدين أوزع على بيوت الكفر كلاته، كيف ما بيعملوا في البندر، وأهو الواحد يشغل الجرشنات برضيك، أو بعدين يا أبا (هدهد) هو برضيك حريم الكفر والنجع بحاله ينفعوا يصوروا، ده الردالة تجاطيعهم مسمسة عنيهم "
يستغرق الوقوف في ضحك متواصل، عدا (هريدي) غير المستوعب لما يجري حوله.
• " به.. يعني إيه عاد، الحكاية كلاتها طلعت ع الفاضي وله إيه..؟ "
يتوقف الضحك وتلتفت الأعين إلى (هريدي)، بينما يعتلي الحاج (هدهد) عربة العمدة (جبيلي) مشيرا بيده نحو أبنه مبتسما.
• " الدحش ده هوه اللي حرج البرج يا ردالة، عليكوا بيه.. "
• " الله أكبر.. الله أكبر "
ترتفع سحابة غبار هائلة، وتختفي الملامح والوجوه لدقائق ثلاث يعود بعدها الهدوء والسكينة على حدود كفري ناعسة والدعابسة، حيث وضعت يافطة كبيرة على واحدة من أشجار الفاكهة، رقد أسفلها جسد مألوف تم عجن ملامحه!!
"اللي معيشربش اللبن.. عيدراله كيف عمو (هريدي)"
تمت بحمد الله