الليل يُسدل أستاره على المباني الشاهقة، ضوء القمر رويدًا رويدًا يبدو كمصباح هائل يحتل زاوية السماء تُحيطه النجوم الصغيرة من كل جانب.
مصابيح المنازل تُطفىء واحدة تلو الأخرى، في نفس الوقت يعبر ظل طائر يحمل حقيبة صغيرة في مواجهة القمر .. ظل أشبه بطائرة كونكورد بالبروز الظاهر في مقدمته، هذا لو أن مصانع الكونكورد قد أنتجت طراز بحجم الأصبع الآدمي.
داخل أحد الطوابق يبدو رجل في العقد الرابع من عمره يقف في منتصف حجرة نوم بسيطة الأثاث يُحكم إغلاق أزرار منامته وهو يتثأب.
يعبر الظل الطائر ذي الحقيبة أمام نافذة الرجل فيتوقف في الهواء ثم يهبط على حافة النافذة لتتضح معالمه "ناموسة".
الرجل وقد أرتشف كوب من الماء يجلس على حافة سريره يخلع ساعته عن معصمه، ويتثأب من جديد .. ثم يتمطع ويضغط زر إغلاق الإضاءة ليسود الظلام فيتمدد ويغط في النوم.
من فرجة النافذة المفتوحة تتسلل الناموسة ذات الحقيبة إلى داخل الغرفة، يضع الحقيبة جانبا .. يهز أجنحته .. يتحسس بروزه الماص، ثم يقفز في الهواء طائرا بإتجاه الرجل النائم وهو -الناموسة- يردد بلا إنقطاع :
• زززززز 41، 42، 43 ززززززز 41، 42، 43 زززززز
لم يكن من المعقول أن يظل الرجل نائما مع هذا العزف المستفز، فيرفع رأسه ويده تبحث عن زر الإضاءة .. الضوء يغمر الحجرة والرجل يفرك عينيه في إرهاق ليجد الناموسة وقد توقفت في الهواء أمام عينيه تتحداه وهي تردد :
• زززززز 41، 42، 43 ززززززز 41، 42، 43 زززززز
يعاود فرك عينيه غير مستوعب، ثم يهب من سريره غاضبا ليغادر الغرفة إلى داخل الشقة، لحظات ويعود وفي يديه علبة مبيد حشري وتبدأ المعركة.
• زززززز 41، 42، 43 ززززززز 41، 42، 3............
تهاوت الناموسة خلف قطعة من أثاث الغرفة مع الدفقات المتتالية من المبيد الحشري المكثف الذي يصوبه الرجل نحوها، ومع سقوطها علت أبتسامة وجه الرجل فيضع علبة المبيد جانبًا، يتمطع من جديد .. ثم يتمدد على سريره، ويعود الظلام ليغلف الغرفة مجددا.
• زززززز كح كح، زززززززز كح كح
لم تمض دقائق حتى ظهرت الناموسة من جديد صاعدة من خلف قطعة الأثاث تترنح لتهبط على حافة النافذة حيث تركت حقيبتها.
• ززززززز كح كح، إيه الغباوة دي .. البني آدمين مالهم بقوا شرسين كده ليه
تجلس الناموسة جوار حقيبتها لتلتقط قليل من الهواء النقي، ثم تمد يدها تعبث داخلها للحظات وتخرجها وقد التقطت شيئا أشبه بالقناع الواقي من الغازات الذي تستخدمه قوات مكافحة الشغب وفض التظاهرات، ترتدي القناع ثم تقفز في الهواء من جديد بإتجاه الرجل النائم
• زززززز 41، 42، 43 ززززززز 41، 42، 43 زززززز
دون أن يُضيء الغرفة يفتح الرجل عينيه وقد أكتسى وجهه بعلامات غباء واضحة غير مستوعب للطريقة التي عادت بها الناموسة، ينتفض في غضب ويهب من فراشه يجذب بلغته من أسفل السرير صارخا وقد أشعل الإضاءة للمرة الثانية:
• عاوز أنام يا بنت الكلـ...
تبدأ مطاردة غاية في الغرابة على حوائط الغرفة، بين الناموسة المستفزة والرجل الذي بدأ يتصبب عرقا وهو يجاهد لصعقها ببلغته مستخدما أسلوب القردة الإستوائية في القفز والشعبطة!.
ولكن هيهات .. إصابة ناموسة بهذه الطريقة ينبغي أن يتوافر لها عدة شروط نجاح، كأن تكون في كامل لياقتك الفنية والبدنية وأن تكون الناموسة ثابتة لاتتحرك أو على أقل تقدير أن تكون البلغة التي تستخدمها لها سوابق أخرى في معارك مشابهة.
ولما كانت هذه الشروط غير متوافرة سقط الرجل على حافة سريره مرهقا بينما الناموسة تحلق فوق رأسه وكأنما تستمتع بما يجري.
• ماشي .. مفيش رش ومفيش بلغه، بس في حاجات تانية
غادر الرجل حجرة نومه إلى الظلام المنتشر في الردهة، ليعود بعدها وقد حمل بين يديه طبق معدني تتوسطه قطعة قطنية مبتلة بمادة لها رائحة نفاذة سرعان ما غزت أجواء الحجرة، بينما يحدث نفسه متلفتا وأصابعه تقبض على علبة كرتونية صغيرة:
• أنا عارف أن روحكم قصيرة مع الدخان، زي ماكانوا بيقولولنا في الجيش لما نبيت في الصحرا "ولع نار ومفيش مخلوق هيقرب منك"!
ودون إبطأ، تقاربت أصابع الرجل في حركة سريعة مألوفة لتشتعل شرارة صغيرة التقطتها القطنة المبتلة بسائل السبرتو، لتسبح أدخنة رمادية في سماء الحجرة التي أحكم الرجل إغلاق منافذها تماما، رغبة منه في القضاء على الناموسة إلى الأبد.
الدقائق تمر، والرجل يقاوم النعاس، بينما أدخنة القطنة التي لم تجد مخرجا تبدو كشبورة الصباح على الطرق المكشوفة، وشيئا فشيئا تهاوت مقاومة الرجل وسقط على حافة سريره بلا حراك بينما الأدخنة تزداد حدة.
الغريب أن حافة النافذة الداخلية للغرفة حيث تركت تلك الناموسة حقيبتها، تألقت بضوء متقطع مع صفير راقص قصير، وسرعان ما برزت الناموسة من اللامكان هابطة بجوار الحقيبة تنتزع ما يشبه أجهزة المحمول، لتتحدث في فخر:
• (حصوة) بيتكلم.. أهلا ست الكل (تفيدة)، معلش أتاخرت عليكي، لسه مخلص على 44 حالا، كان متعب شويتين زيادة، بس في الآخر وقع زي كل اللي سبقوه فريسة لغباوته وحموريته!